دراسة
نهلة عبداللهيعجبُ كثيرون من الأطفال عندما تتحدث قصصهم عن القوى الغامضة الخاتم السحري، ومصباح علاء الدين وطاقية الإخفاء، والجني الطيب.وعن أدوارهم الخرافية في الحكايات الشعبية، أو عندما نقول بأنّ خلاص الأميرة المسحورة كان على يد الجني الطيب أو القزم الطيب، فالجني في نظرهم يملك طاقات جبارة بحركته السريعة، وقدرته الفائقة على الاختراق والصعود والهبوط وتحقيق العدالة.كما لا يخفى أنّ البطل الحقيقي لديه إمكانات كبيرة وفائقة على اختراق مواقع العدو، واختيار اللحظة الحاسمة لتدميره، وشعبيته في تزايدٍ لأنّه يقوم بمساعدة المحتاجين وهكذا، خصوصاً في حكايات الخيال الأدبي الشعبي، باعتبار الخرافة (خارقة) أصابت الهدف، وللموروث الشعبي فعلاً تأثير قديم على فن المرويات عامة وفيها تجلّت عبقرية الرواة وعظمت بطولة وتضحيات الفرسان، فهل أنصف التاريخ الأدب الشعبي الخيالي ليحقق ما يحققه الخيال العلمي المعاصر؟ وهل يعتبر الأثر الخرافي مصدراً تراثياً لحكايات الأطفال الشعبية؟.اعتمد الأوائل أو الشعبيون على الخرافة في تحقيق الغايات التي تبدو مستحيلة أو التي تفوق قدرات البشر العاديين في الوصول إلى الهدف، وعلى أهمية ما يحدث في هذه الخرافات من تباينٍ وتنويعات متجانسة وغير متجانسة، فإنّ نقطة الالتقاء عند نتائجها القدرية مسالة محسومة، وإن اختلفت التفاصيل بما أورثته قرون التخلف تبلور شيئاً فشيئاً عبر عشرات السنين لتصبح الشكوى من الظلم الاجتماعي قصة متناقضة المصالح عداء ونقمة، ونوازع الخير والشر قوانين إنسانية غير مسموح للراوي بتجاوزها، وانطلاقاً من هذا المفهوم يمكن اعتبار الخرافة (حاضنة) تعويضية للمرويات التي ولدت من رحم المخيلة الشعبية.أما الراوي هنا على وجه الخصوص يقوم بتوظيف كل ما يعتري السلوك الإنساني من تبدلاتٍ غريبة قد تصل إلى حد الخروج عن المألوف، لأنّه لم يجد طريقة غيرها لحل مشكلات أبطاله، علاوة على كونه مصنفاً لما تعارف الشعبيون على تسميته (بالخرافات) بتشديد الراء.ولعل أبرز صور هذا التوظيف تتجلى في كثيرٍ من الأحداث السردية التي تجرى في اتجاهات عدة استأثرت بأكبر قدرٍ ممكن من الحكايات والخوارق حتى تلك المسميات على اختلاف مدلولاتها : (ارم ذات العماد، الحروري) (الدجرة) وريقة الحناء، جنة عدن، نسور لقمان، الجرجوف، لم يأت ذكرها لمجرد الذكر بل لتحليل أنساقها ومنطلقاتها ابتداءً من انعكاسها على ما هو قائم في استلهام أمثولة البطولات سواء كان بطل الخرافة فرداً عادياً أو حاكماً عادلاً أو نبيلاً أو بطلاً شعبياً مثل الملك سيف، بيبرس، أبي مسلم الخراساني، رمادة، الأميرة ذات الهمة .. الخ.كل هذا لا ينفي وجه المقارنة عند حل مشكلة من مشاكل الحكاية أو السيرة، وبمقدار ما يسعى البطل للخروج من مشكلته باستخدام القوى الغامضة من دون أي تدخلٍ من العقل، بقدر ما يجعل استجابة المتلقى للخارقة ممكنة باعتبارها المعالجة الوحيدة المعترف بها كاللجوء للنقش المكتوب على خاتم النبي سليمان عليه السلام، أو الهروب على البساط الطائر، أو تحقيق الرغبات من خلال الطاقية الإخفاء، حتى الطلسم السحري الذي يسلط أموره على أي كائن كان فيسخط أو يختفي عن الأنظار مباشرة، كان حلاً جهنمياً من قبل الرواة ويمكن استخدامه بواسطة خادمه بلا معايير عقلية، إضافة إلى انعكاس (ميكانيزمات) أي تضمينه أو فكرة مرادفة للشق الغيبي عند مواجهة الأحداث السريعة من خلال ترك الحبل للعبة الحظ القدرية.لاشك أنّ الخرافة قد تلغي الحد الفاصل بين السيرة التاريخية التي تركز غالباً على السيرة الذاتية لحياة البطل الواقعي، وبين الحكاية الأسطورية التي تهتم بما يحدث من تطورٍ وتغيرٍ في حياة بطل الحكاية، وهنا الخرافة وحدها هي التي تسمح لهذا المزيج من الخيال والصور والمعاناة والمفارقات الآن تحدث من نثار الأشياء الظروف، الحالات الغريبة – التي سنأتي على ذكرها لاحقاً) – تجعلنا نرى مع الراوي إمكانية التقبل بالفطرة لنماذج من السلوك القائم على التقديس انطلاقاً من المكوّنات المستقرة في أذهان الناس والتي لامست طموحاتهم ومشاعرهم الناتجة عن الظروف المعيشية (الفقر، العنف، الخوف) بحيث تشكل هذه ( المونتيفات) مطالباً خاصة مرتبطة بالحرية والعدالة.هذا فضلاً عن تراكم تمّ من الحكايات ما تزال دون تدوين وكان تصنيفها لصالح الجن والعفاريت والسحرة، الآن لم تُعد تُقدَّم مثل هذه المرويات حيث ظهرت المكتشفات والمخترعات والألعاب الإليكترونية، وأكبر برهان على ذلك مختلف قراءات كتب الأدب الكلاسيكي المدرسي لأنّها تستقي من أفكارٍ قام بها روائيون شعبيون وبطريقة مشوقة بالمقارنة مع أية مؤلفات مقروءة.أما في ضوء المعطيات العصرية فإنّ خرافات أدب الخيال الشعبي لم تُعد مروية كما كانت في السابق على الرغم من أنّ قصص الخيال العلمي قد استمروا الأطفال بالاعتماد عليها أو اللجوء إليها عندما تقتضي الحاجة للقراءة أو متابعة أعمال (سويف وويلز) وغيرهما من الكُتَّاب في رحلات جليفر، رحلة إلى القمر، إله الزمان، الرجل الخفي،خارق الجدران عشرون فرسخاً، تحت سطح الأرض كلها مبنيَّة على ما حققته الكشوفات العلمية.وفي كثيرٍ من الروايات التي تصل في نهاية المطاف إلى التعرف على شروط تقنية السرد الشفهي وغيرها من الشروط المختلفة التي تضطلع بها ثقافة الراوي تمجيداً للبطولة، وإذكاء للحماسة، والإشادة بالقيمة المكتسبة من (موتيف) الحلم الذي يراود وجدان الناس تدخل الخرافة في صلب أحداثها التي كانت الذاكرة الجمعية تقوم بصياغتها أو إبداعها بما يلائم ( تيمه) وصولها للهدف البطولي بقدر لا يقل عن معاناة أبطالها في الموروث الشعبي.وعلى هذه الدرجة من الخصوصية ترتبط المرويات بمراحل تاريخية وظروف اجتماعية كان لها في ذلك الوقت ضرورة واضحة ومصداقية تنسجم مع روح الأمة ورؤاها العقائدية أو التقليدية، وعلى الرغم من تطور التقانة، إلا أنّ معظم المشكلات أو الحاجيات في المرويات الشعبية المتناقلة كانت تتم معالجتها أو إشباعها عن طريق الخرافة باعتبارها خميرة تطور الخيال الأدبي الشعبي.وهناك قواسم مشتركة للخرافة لا يجوز التفكير في واحدةٍ منها دون الأخرى :(الأولى) تتجلى بأشكال مختلفة متجانسة أو غير متجانسة أي ذات تجانس قومي وثقافي أو متنوعة.(الثانية) الآلية الذاتية للراوي المجهول وهذه الآلية تسمح بالاستمرار في الرصد والإضافة والتغيير على مر الزمن.(الثالثة) كون الخرافة ترجع في الأغلب إلى غير المعقول منه إلى المعقول، إلا أنّها مع الوقت يستطيع المنطق أن يكتشفها وذلك مثلما حدث مع طلسم (افتح يا سمسم) غير انّه ليس المثال الوحيد في الخيال الأدبي الشعبي، فهناك أدب (الليالي) والرابط بينها عضوياً وينظمها نسقاً واحداً هو الخيال الخصب.عموماً قراءة الأثر الخرافي كمصدر تراثي لثقافة الأطفال الشعبية يعيد حماستنا لإعادة مخططة الإنتاجي القديم بصورةٍ جديدة، كما يُعيد حماستنا للاستفادة من الخرافات التي يمكن أن ينظر إليها كنمط أرقى من السرد والشفهي وليس مجرد استخلاصات من الموروث للرواية فقط.[c1]هوامش [/c](1) (خرافة) بتشديد الراء ويجمعونها خرافات.(2) الفنتازيا، الخيال الأسطوري.(3) نسور لقمان الحكيم في أسطورته الخالدة قد رُهن بقاءه ببقاء نسوره السبعة حتى إذا وافت المنية آخر النسور راح يستصرخه إحيا لُبد.. إحياء لُبد.(4) شدّاد بن عاد شخصية أسطورية نُسبت إليها جملةً من الأعمال والخوارق الخرافية.(5) طاقية الإخفاء وهي الصورة المقابلة عندنا لكوفية (الهما) من الموروث السردي الشعبي، التي تخفي من يلبسها عن العيون.(6) (جنّة عدن) ينكر بان خلدون وجودها في مقدمته وأنّها بعض خرافات المؤرخين.(7) فونيماتها / لهجات وأساليب وطرق تصنيفات وتوظيفها.(8) إرم ذات العماد.. قصة مدينة إرم التي بناها شدّاد بن كنعان)، وزعم بعض المؤرخين أنّها بُنيت في شمال شرق عدن على أساس أن تكون مثيلة لجنة عدن.(9) الحروري، يُقال أنّ والد (بلقيس) تزوج الحروري وهي جنية أنجبت له بلقيس والذي كان شك في سلامة تكوينها الجسمي كما كان يعتقد أنّ لها رجل تشبه حوافر الحمار كما جاء في رواية شرح القصيدة الحميرية لنشوان بن سعيد.(10) الدجرة من الموروث السردي الشفهي رمز للبشر.(11) (ميكانيزمات) مجموعة ممارسات وأفكار ومقولات واحتياجات سالفة وعصرية.(12)كُتُبْ الأدب الكلاسيكي المدرسي من موادها التي تتلمذنا عليها في الستينات من القرن العشرين : مملكة البجع والشاطئ المسحور، ضيف الشيطان، رقصة الجن، أنا عفريت أنا نفريت، الجني العادل.(13) (موتيف) نزعة وظيفية.(14) فرانك شنتاين (الرجل الزائف) وهو ما نعرفه في أدب الليالي بالمسخوط. [c1]المراجع : [/c](1) الفولكلور والأساطير العربية شوقي عبدالحكيم دار ابن خلدون.(2) أشكال التعبير في الأدب الشعبي بنيله إبراهيم.(3) عبدالله الطيب بامخرمة تاريخ ثغر عدن الجزء الأول الطبعة الثانية.(4) حسين سالم باصديق في التراث الشعبي، إعداد وتوثيق مركز الدراسات بصنعاء.(5) صخرة علي لقمان قصص من تاريخ اليمن 1985 / دار الحكمة، الحكمة العدد 46 – 58 – العربي العدد 369.