ذكريات حول
د. شهاب غانم كنت صبياً في أواخر الدراسة المتوسطة أو أوائل الدراسة الثانوية في الخمسينيات من القرن الماضي عندما بدأت أسمع باسم نازك الملائكة واسم فدوى طوقان وبمقارنة بينهما والخنساء ، ثم بدورهما في الشعر الحر وخصوصاً دور نازك الملائكة وكان ذلك في منزلنا الذي كان ملتقى شعراء عدن الذي لم يكن له مقر وكان والدي رئيساً للملتقى الذي كان يضم شعراء من أمثال علي محمد لقمان ولطفى جعفر أمان ومحمد سعيد جرادة وإدريس حنبلة وعلي عبدالعزيز نصر وأحمد حامد جوهري ومحمد حسن عوبلي وطبعاً والدي محمد عبده غانم رحمهم الله جميعاً .. وكان أستاذي في المدرسة لطفي جعفر أمان أكثرهم اهتماماً بالشعر الحر الذي نشر منه نماذج في ديوانه الأول بقايا نغم ( الذي نشر عام 1948م ولكن والدي وأيضاً علي عبدالعزيز نصر ممن نشروا شعراً حراً ) ، ولكن أول من كتب الشعر الحر ( أو التفعيلي ) هو علي أحمد باكثير وكان ذلك عام 1938م وقد اعترف بذلك السياب في رسائله إلى باكثير وأيضاً نازك في الطبعة الخامسة لكتابها ( قضايا الشعر المعاصر ) وربما كان هناك من سبق باكثير أما الذين سبقوا نازك والسياب فكثيرون منهم الشاعر اليمني حسن بن عبدالرحمن بن عبدالله السقاف في ديوانه ولائد الساحل المنشور 1943م ومن الأردن مصطفى وهبي التل ( عرار ) ومن لبنان فؤاد الخشن ... الخ ، ولكن السياب ونازك هما من كرسا هذا الشكل الجديد فتبعمها في العراق أمثال بلند الحيدري والبياتي ولميعة عباس وفي مصر أمثال عبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وعبدالمنعم عواد يوسف وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل وحسن فتح الباب وفي لبنان أمثال خليل حاوي وأدونيس وفي سوريا أمثال نزار قباني وفي السودان أمثال تاج السر الحسن ومحمد مفتاح الفيتوري ومحي الدين فارس .. الخ .كانت الكوليراً أول القصائد الحرة لنازك ( التي ولدت في 23 أغسطس 1922م حسب شقيقها الدكتور نزار وليس عام 1923م كما ذكرت بعض الصحف بعد وفاتها ) ولكن لعل أول القصائد التي اطلعت عليها شخصياً لنازك هي قصيدتها ( أنا من أكون ) ومطلعها : [c1]الليل يسأل من أنا أنا سره القلق العميق الأسود أنا صمته المتمرد قنعت قلبي بالسكون ولففت نفسي بالظنون وبقيت ساهمة هنا أرنو وتسألني القرون أنا من أكون ؟ ... [/c]وفي مرحلة لاحقة اطلعت على كتابها الهام ( قضايا الشعر المعاصر ) الذي كان أول كتاب يؤصل للشعر الحر نظرياً ( وهو الشعر الذي اصبح يعرف بشكل أوسع فيما بعد بالشعر التفعيلي ) كما اطلعت على بعض كتبها الأخرى مثل ( الصومعة والشرفة الحمراء ) الذي كتبته عن شعر علي محمد طه . في أوائل السبعينيات زار والدي ووالدتي الكويت وتكونت بينهما وبين نازك الملائكة وزوجها الدكتور عبدالهادي محبوبة معرفة وصداقة وتعرفا أيضاً على ابنهما الوحيد البراق ، وكانت نازك قد تزوجت د. محبوبة عندما انتقلت من كلية التربية ببغداد للعمل في جامعة البصرة التي كان د. محبوبة رئيساً لها ، وكان زواجهما عام 1964م ونازك قد جاوزت الأربعين ، وكانت نازك ومحبوبة يعملان في جامعة الكويت ( كما تعرف والدي خلال زيارته الكويت في تلك الفترة على عدد من الادباء الكويتيين العرب ومنهم د. شوقي ضيف الذي قدم كتاب والدي ( شعر الغناء الصنعاني ).وبسبب علاقة والداي بهما نشأت بيني وبينهما مراسلات وكنت أبعث اليهما ببعض قصائدي واستفيد من تعليقاتهما وكان د. عبدالهادي محبوبة هو الذي يكتب الرسائل ويفيدني برايه ورأي نازك وأذكر أنها اقترحت مرة تغيير عبارة في إحدى قصائدي المنشورة ونزلت عند رأيها عندما نشرت القصيدة في ديوان ، ومرة ارسلت لهما قصيدة تفعيلية فيها القوافي قليلة فقالت إنها ضد التدوير والتخلي عن القافية . وعندما نشرت ديواني الأول ( بين شط وآخر ) ذيلته بتعليق للدكتور عبدالهادي محبوبة ضمن آخرين. وقد أرسلت لي نازك في تلك الفترة نسخة من ديوان والدتها أم نزار الملائكة ( أنشودة المجد ) وفيه كثير من القصائد من فلسطين وعن قضايا العروبة ، كما أرسلت لي بنسخة من كتاب يحوي ترجمات لرباعيات الخيام قام بترجمتها خالها الشاعر د. جميل الملائكة وهو مهندس ووزير سابق للصناعة وقد كتبت عنه ضمن سلسلة المقالات التي كنت أنشرها في مجلة ( عالم الهندسة ) التي كنت ارأس تحريرها واحرر فيها بابا بعنوان ( مهندس شاعر ) . وعندما انتقلت إلى كارديف لتحضير أطروحة الدكتوراه احتجت إلى عدد من المراجع الكويتية فاكرمني الأستاذ القدير د. عبدالهادي محبوبة رحمه الله بارسالها إلي .ومرت السنوات دون أن التقي د. محبوبة أو نازك الملائكة ثم حصلت نازك على جائزة البابطين عام 1996م وأقيم الحفل بأبوظبي وحسبت أني سارها هناك ولكنها لم تتمكن من الحضور بسبب المرض وحضر د. عبدالهادي محبوبة ورأيته ، جالسا مع الصديقة الشاعرة الكبيرة لميعة عباس فعرفته بنفسي فذكرني بمراسلاتنا وسألني عن والدي وعندما أخبرته أنه توفي رحمه الله في الايام التي تلت الحرب اليمنية الاهلية عام 1994م شعر بحزن شديد واخبرني أنه لم يسمع بالخبر فقد طغت أخبار الحرب يومها على الأخبار الأخرى وقد توفي د. محبوبة عام 2001م رحمه الله . بعد غزو الكويت انتقل د. عبده بدوي من التدريس في جامعة الكويت إلى جامعة الإمارات والتقيتة شخصياً بعد أن كانت بيننا رسائل كثيرة في السنوات السابقة لذلك وكان يكرمني بنشر قصائدي في مجلة الشعر القاهرية وكان صديقاً قريباً لنازك أثناء العمل في جامعة الكويت ، وكانت نازك قد انتقلت إلى القاهرة هي وزوجها وولدها البراق حدثته عن إعجابي الشديد بقصيدة نازك ( دكان القرائين الصغيرة ) فحدثتي عن تلك القصيدة وما أثارته من جدل وخصوصاً جمعها لكلمة قرآن بقرائين .. وهي كما يبدو صيغة تستعمل في اللغة الدارجة .وفي جلسة مع الصديق الشاعر السوداني عبدالقادر الكتيابي في التسعينيات بابوظبي – وهو أبن اخت الشاعر السوداني الأشهر التيجاني يوسف بشير وهو أيضاً صديق شقيقي الطبيب الفنان نزار غانم وزميله في الدراسة في جامعة الخرطوم – وجرى بيننا حديث عن نازك فذكرت له إعجابي بقصيدة ( دكان القرائين الصغيرة ) فقال لي هي في رأيه أهم قصائد نازك على الإطلاق ، وهي قصيدة طويلة رائعة تصور في شبه حلم بحثها في أزقة بغداد عن مصحف صغير تهديه لحبيبها المسافر يعلقه على صدره كتعويذة تحميه في سفره ولكن تعود خاوية الكف من المصحف الصغير ( تقول في المطلع من هذه القصيدة الطويلة ) : [c1]في ضباب الحلم طوفت مع السارين في سوق عتيق غارق في عطر ماء الورد وامتد طريقي وسع الحلم عيوني ، رش سكراً في عروقي ثملت روحي باشذاء التوابل وصناديق العتيق وبألوان السجاجيد بعطر الهيل والحناء بالآنية الغرقى الغلائل سرقت روحى المرايا واستدارات المكاحل كنت نشوى ، في ازرقاق الحلم أمشى واسائل أين دكان القرائين الصغيرة ؟ [/c]وعندما بدأت مشروعي لترجمة نماذج من الشعر العربي المعاصر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وهو المشروع الذي مازال لم يتوقف قمت بترجمة قصيدتين لنازك ونشرتهما في مجلة ناطقة بالانكليزية . أما القصيدة الأولى فكانت بعنوان ( سوسنه ) اسمها القدس ، منها : [c1]إذا نحن متنا وحاسبنا الله قال : ألم اعطكم موطنا أما كنت فجرت فيه الينابيع ، كللته سوسنا سكبت التألق والاخضرار على المنحنى جعلت الثرى عابقا لينا فماذا صنعتم به ؟ بالروابي ؟ بذاك الجنى بما فيه من سكر وسنا ؟ سيسألنا الله يوماً ، فماذا نقول ؟ [/c]أما القصيدة الثانية فكانت بعنوان ( ثلج ونار ) ومنها : [c1]وإذا مارحت تؤنبني هل أنسحب ؟ هل يقبل ثلج عتابك قلبي الملتهب ؟ أترى تقبل ؟ لا أغضب ؟ لا اضطرب لا ! بل سأثور عليك .. سيأكلني الغضب [/c]الشاعرة والناقدة الكبيرة نازك الملائكة كانت أول أنثى تدرس في جامعة برنستون العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية إذ كان قانون الجامعة ذلك لايسمح بالتحاق المرأة بها . لقد رحلت عن دنيانا يوم 20 يونيه 2007م بعد صراع طويل مع مرض السكر والضغط فنسأل الله لها المغفرة والجنة ولابنها د. البراق ولذويها ولعشاق أدبها الصبر والسلوان .