نبض القلم
التعصب خلق مذموم، وصفة مرذولة، وعادة قبيحة، يتولد عن التقليد الأعمى أو الحب المتطرف، بدافع الأنانية وحب الذات وعدم التقدير لشعور الغير وحقوقهم والواجبات الاجتماعية، وهو في جميع أشكاله ومظاهره له نتائج خطيرة وآثار سيئة على الفرد والجماعة، ولهذا فإن الإسلام يبطله، ولايرضى لأي شخص أن يتعصب لرأي لم يقطع به دليل ولم تؤيده براهين. ويرفض الإسلام رفضاً قاطعاً أن يتمسك المرء برأيه إلى الحد الذي يجعله يأبى النصح ولا يقبل المناقشة ، أو يلح في العناد والمجادلة بالباطل، وربما يحمله ذلك إلى المهاترة والقول الفاحش، وقد يزين له غروره سوء رأيه وخطأ منهجه، فيعتقد أن رأيه صحيح، ومنهجه صائب، ويعمد إلى فرض رأيه على غيره، أو يحاول إجبار الآخرين على اتباعه، والسير على منواله، فيتصرف على مزاجه وهواه، ولا يقبل النقد فيما يقول أو يفعل. وفي هؤلاء يقول الله تعالى : (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ) {الجاثية، 33}. والإسلام لا يريد لأية جماعة من الناس أن تتعصب لمذهب سياسي أو نظام اجتماعي أو رأي فقهي، وينكر على أي جماعة أن تعتقد أنها وحدها على صواب، وأن غيرها على باطل، فهي لذلك تتعرض لخصومها أو مخالفيها بالنقد الجارح والاتهامات الباطلة، وربما تشن الحملات الإعلامية للتشهير بمخالفيها، وتعمد إلى إثارة الفتن والقلاقل، بما تبتكره من وسائل التحريض والإثارة، ويكون من وراء ذلك تفريق المجتمع، وتمزيق الوحدة الوطنية، وتشتيت الشمل، واستنفاد الجهود والموارد في أمور لا طائل منها ولا فائدة. وأشد ما يكون التعصب ضرراً على المجتمع إذا لبس ثياب الدين، وأخطر من ذلك إذا وجدت في المجتمع جماعة أو طائفة تسيء إلى الأديان الأخرى، وتزرع الكراهية في النفوس، وفي ذلك يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ( ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون ) {الروم، 31 ، 32 }.ويقول : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ) {الأنغام ،159}. ونهى الإسلام عن سب المخالفين في الدين والعقيدة، منعاً لتبادل السب وتفاقم الشتائم عند المقابلة بالمثل، قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) { الأنغام ، 108}. ولا يرضى الإسلام عن التعصب للجنس أو الدم أو اللون، كما ينبذ العنصرية نبذاً قاطعاً ، ويرفض كل ما من شأنه التفريق بين الناس وإثارة العداوة والبغضاء في أوساطهم، وينكر على من يتعالى على الآخرين بنسبه أو جنسه، ولقد حمل على اليهود حين تعصبوا لجنسهم فقالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) فرد عليهم القرآن الكريم بقوله : ( بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) { المائدة 18} وقضى الإسلام على ما كان قائماً في الجاهلية من تعصب للدم واحتقار للغير، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي الذي سب مسلماً وعيره بأمه في قوله : (يا ابن السوداء ) فقال له : ( إنك امرؤ فيك جاهلية، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى) .كما لا يرضى الإسلام التعصب للقبيلة أو العشيرة، فيعتبر ذلك أمراً ممقوتاً لأنه يؤدي إلى المحسوبية والمحاباة في المعاملة، فتنهار بذلك أسس العدل ، وتختل مقاييس التقييم والتقدير، وتنفصم عرى المودة في المجتمع، ويكون تعامل الناس مع بعضهم في أضيق الحدود. ولقد كان العرب في الجاهلية يتمسكون بالعصبية ويعقدون لها مجالس للمفاخرة بالأنساب والأحساب، حتى جاء الإسلام فألغى هذه العادة، كما ألغى التقاليد الموروثة القائمة على التعصب للأوضاع الجائرة التي درج عليها الأقدمون، لأن في التعصب جموداً يحول دون الرقي والتقدم، وفيه إهداراً لنعمة العقل المستقل وإلغاء للحواس التي جعلها الله وسائل للنظر والتفكر والتدبر، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من دعا إلى عصبية). فهل يعي أولئكم الذين ينكرون نعمة الوحدة، ويتعصبون للقبيلة والعشيرة والمنطقة ، أو المذهب، ويريدون العودة بنا إلى أيام التشطير المقيتة، فهؤلاء وأمثالهم وصفهم القرآن الكريم بقوله: ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) { الأعراف 179}. [c1]* خطيب جامع الهاشمي[/c]