اضاواء
احد أهم مظاهر العام الماضي السياسية هي تفشي حالة الفراغ الرئاسي والدستوري في المنطقة، ورغم أن حالة الفراغ الدستوري ليست جديدة، إلا أن انتشارها بهذا الشكل لفترات طويلة، بل والتعود السياسي والاجتماعي عليها هي مسألة خطرة جداً. حالياً، لبنان بلا رئيس جمهورية منذ غادر الرئيس إميل لحود قصر بعبدا نهاية نوفمبر الماضي، بينما وصل عدد التأجيلات لجلسة انتخاب الرئيس إلى 13، والرقم مرشح للزيادة. أما الأراضي الفلسطينية المحتلة فما تزال في حالة حرب أهلية وبحكومتين أحدهما في القطاع والأخرى في غزة. صحيح، أن الحالة السياسية لطالما كانت متقلبة في أماكن مثل الأراضي الفلسطينية ولبنان، ولكن من غير المقبول أن تعود الأمور إلى أسوأ مما كان عليه قبل عقدين من الزمن.ظاهرة الفراغ كذلك ليست وحدها المشكلة، بل يضاف إليها مظاهر عديدة تجسد غياب الدولة المدنية، أو غياب سلطة الدولة على أجزاء من الأرض، أو حتى في بعض الحالات غياب سلطة القانون عن بعض الأحياء الشعبية داخل كبرى العواصم العربية. إذا ما راجعنا تقرير “الدول المتعثرة” للعام (2007) الذي تصدره مجلة الفورن-بولسي الأمريكية لوجدنا أن من بين أسوأ خمسة دول حظاً -من ناحية الاستقرار - أربعة منها دول عربية وإسلامية، وهي: لبنان، السودان، الصومال، النيجر. مثال آخر يجسده التقرير الذي أعده مجموعة خبراء من معهد بروكنغز بواشنطن حول أهم أربعة تحديات أمنية تواجه الرئيس المقبل للولايات المتحدة، والتي منها ثلاث تحديات عربية وإسلامية: النزاع الطائفي في العراق، والخطر النووي الإيراني، وأزمة باكستان. إذاً، الأزمات السياسية التي تعصف في المنطقة قد تشل بشكل كامل فرص الإصلاح السياسي والاقتصادي التي كان يراهن عليها قبل أربعة أعوام مضت. حالياً يمكن اعتبار “الأمن” المطلب الملح في المنطقة، فبعيداً عن مناطق النزاع المسلح كالعراق والصومال، هناك حاجة ملحة لتحقيق الشعور بالأمان في بلدان عربية كثيرة حيث تهدد العمليات الإرهابية وخروج مساحات كبيرة من الأرض عن سيطرة الحكومات المركزية استقرار الحياة الاجتماعية، ورغم أن هذا الأمر غير معترف به إلا أحياناً، وتتم مناقشته في دوائر ضيقة أحياناً أخرى، إلا أنه أمر مهم يهدد الأمن الوطني في تلك البلدان. الجزائر تمثل نموذجاً لهذه الأزمة المستمرة، فيما لم تعد دول ذات تاريخ أمني مميز بمنأى عن التهديدات الإرهابية. عندما نتحدث عن مسألة “الفراغ السياسي”، سواء تجسد ذلك في حالات اللاستقرار، أو تدني مستويات الأمان الشخصي، فإنه ينبغي ألّا يغيب عن أذهاننا مسألة أن “الأمان” يتضمن أيضاً ضمان الحدود الدنيا من متطلبات الاستقرار المعيشي والاجتماعي والأسري. إن تفشي ظاهر “الفراغ السياسي” على هذا المستوى يعني إحساس إنسان المنطقة بأن لقمة عيشه أو ملجأه الاجتماعي قد يكونان مهددان في أي وقت، وأسوأ من ذلك أن تفقد المرأة أو الطفل إحساسه بالأمان الاجتماعي والأسري. قد يبدو هذا الطرح غريباً على المهتمين بالتحليل السياسي للأزمات الإقليمية، ولكن ثمة بعد “ميكرو-اجتماعي” غائب في تحليلاتنا السياسية. فعلى سبيل المثال، إذا ما طرحت قضية “الفراغ السياسي” على طاولة البحث السياسي سواء في مراكز البحث الغربية، أو حتى على قطاع المثقفين والباحثين في المنطقة فليس ثمة في الغالب حلول عملية وعاجلة لتخفيف الأزمة، بل حديث عام مغرق في التحليل المثالي للأزمة دون الخوض في وسائل حلها الواقعية، مع أننا نعرف أن ليس ثمة مساحة لإجراءات ثورية أو انقلابية. وهنا، علي أن أنبه إلى أن جزءاً من توصيف المشكلة خاطئ، فهناك جنوح كبير لتحميل الأنظمة السياسية أعباء المشكلات القائمة، في حين أن هذه الأنظمة هي نتاج الحالة الشعبية في أدق تجلياتها، والدليل على ذلك، أن غالبية محاولات المعارضة سواءً كانت سياسية أو اجتماعية تفشل، وجزء من ذلك الفشل يعود إلى أنه ليس ثمة عمق إصلاحي في المخيال الشعبي يمكن التأثير عليه، فالناس لا تعرف بالتحديد ما هو شكل الدولة المدنية التي يريدونها. إن تاريخ المنطقة رغم كونه مغرقاً في القدم، إلا أنه بالنسبة للشعوب الحديثة معاصر للغاية. ولا أدل على ذلك من كون الناس لم تتعود غير ما ألفته في العقود الخمسة الأخيرة. ولهذا فعندما تتحدث عن إصلاح الأوضاع السياسية أو الاقتصادية الراهنة فليس هناك حلم شعبي بتحقيق أهداف محددة. صحيح، أن الفرد في المنطقة يتمنى لو تحسنت أوضاعه المعيشية، وتحسنت حالة الحريات، إلا أنه لا يملك تصوراً لكيفية تحقيق ذلك في المقام الأول، ثم لا يعرف نوعية التنازلات أو التضحيات التي من الممكن أن يتقدم بها. قبل خمسين عاماً، كانت جل أحلام شعوب المنطقة هي أن تحرر من الاستعمار الأجنبي، بينما كانت القضية الفلسطينية بلاجئيها هي مطلب العدالة الإقليمي الأول. أما اليوم، فإن ذهنية الفرد مشغولة بشتى الأزمات الشخصية والوطنية، وهناك صراع دائم ليس بين المواطن والحكومة فقط، بل بين المواطن والمواطن بدءاً من الصراع على الحريات الشخصية بين المتشددين دينياً وبقية المجتمع، أو الصراع الإداري الكبير الذي اسمه “البيروقراطية العربية”. هناك حالة من الفراغ الفكري ناتج عن زحمة هذه المشكلات، وهو فراغ لأن الفرد يحاول تبسيط كل مشكلاته عبر اختصارها في ثنائيات دينية أو سياسية أو شعبية. أعتقد أن ما تحتاجه دول المنطقة حالياً ليس المزيد من الانقلابات السياسية، أو الانتخابات ذات الصوت الواحد سواء كانت حاكمة أو إسلامية، بل التوجه نحو “الهندسة الاجتماعية”، أو ما يطلق عليه بالانجليزية (social engineering). حالة كثير من البلدان العربية تشبه إلى حد كبير حالة بلدان خرجت للتو من حالة الحرب الأهلية، ليست هذه مبالغة، فمن بين 22دولة عربية، هناك سبعة منها على قائمة الدول الأقل استقراراً في العالم، وإذا كنت لا تثق بهذه التقديرات الدولية، فراجع بنفسك مؤشرات الاستقرار: كالنمو الاقتصادي، وحقوق الإنسان، والنزاع الإثني، والعصبيات الاجتماعية، الضغط الديموغرافي، تدني الخدمات الأساسية، الصحة، وحالة اللاجئين والمشتتين. إن الحاجة إلى سلوك مسار الإصلاح الاجتماعي وفق تكنيكات “الهندسة الاجتماعية” - وهو أمر يطول شرحه- بات مسألة ملحة، صحيح أننا بتنا نعرف أن مسألة توريث الأنظمة الجمهورية بات واقعياً اليوم، على العكس ما كان يظنه الخبراء في السابق، ولكن المسألة هنا ليست توريث السلطة بقدر ما هي توريث للمشكلات من جيل إلى جيل آخر. ضرورة أن يسلك المثقفون والمفكرون والأكاديميون والنشطاء مسار التغيير السلمي الإيجابي، والتعويل على التأثير على المؤسسة الحاكمة بدل مصادمتها. ذلك أمر ينبغي التفكير فيه، لأن ما نحتاجه هو إعطاء الفرصة لإجراء إعادة تشكيل للبنية الاجتماعية، وإعادة تحديد أولوياتها، وسلم القيم بها. «السلطة” أمر يبالغ في تقدير تأثيرها وقدرتها على تغيير الناس في العالم العربي، ولكن المتابع لتاريخ المنطقة يدرك أن الذين استخدموها قد نجحوا في البقاء، ولكن لم ينجحوا أبداً في استخدامها للتغيير لأن حجم الممانعة الاجتماعية عميق للغاية. وهنا أنا لا ألغي دور المؤسسات السياسية، بل إنني أقول أن المؤسسة السياسية قد تجنح للإصلاح السياسي متى ما أصبح مطلباً اجتماعياً ضرورياً.*عن/ جريدة “الرياض” السعودية