شغلت قصة نشوء الكون وميلاد الحياة الفلاسفة والمفكرين والعلماء في أحقاب التاريخ المختلفة وعهوده المتعاقبة وظل لغز الوجود هاجساً يؤرق وجدان البشرية ويشغل عقل الإنسان حتى بدأت محاولة حديثة في وسط أوروبا - جرى إرجاؤها قبيل اتمامها - لاختبار عملية «الانفجار العظيم» التي درج العلماء على اعتبارها هي حادثة ميلاد الكون وبدء الخليقة. وكثيراً ما ارتطمت الرواية الدينية بالقصة التاريخية واصطدم الاثنان أحياناً بالحقائق العلمية ومع ذلك ظلت قصة «الانفجار العظيم» هي التفسير الغالب لميلاد الخلية الحية الأولى وبداية الحياة على الكواكب. وعندما أسهمت «الداروينية» في استكمال هذا التفسير بالحديث عن «نظرية النشوء والارتقاء» للكائنات الحية وتطورها من مراحلها البدائية إلى صورتها البشرية مروراً بالمرحلة «القردية»، فإنها رسخت ذلك التفسير وأضافت إليه ووقفت بإصرار أمام التفسير الديني للوجود الإنساني والذي يرفض أن يكون القرد مرحلة من مراحل التكوين البشري الكامل. أقول ذلك لأنه في نفس الفترة التي يجري فيها الحديث عن استعادة عملية «الانفجار العظيم» على المستوى العلمي والبحثي فلقد جرى حديث آخر في أروقة الحكم الأميركي يشير إلى «الفوضى الخلاقة» من الناحية السياسية والاقتصادية، حيث طلعت علينا السيدة كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية بنظرية تقول إن ما يجري في الشرق الأوسط - بمعناه الواسع - هو جزء من «الفوضى الخلاقة» التي يمكن أن تنطلق عنها وتخرج منها منظومة جديدة للواقع السياسي المختلف في المنطقة، وهي بذلك تحاول أن تجد مبرراً لما جرى في العراق وما حدث في أفغانستان كأنها تريد أن تضع تفسيراً لطبيعة الوجود الأميركي في المنطقة وأسلوب تحركه واحتمالات المستقبل أمامه.ولئن صدقت أسطورة «الانفجار العظيم» وصحت نظرية «الفوضى الخلاقة»، إلا أننا لا نزال أمام عدد من الاعتبارات التي يجب أن نأخذها في الحسبان وهي:أولاً: إذا كان النظام البشري ولد من رحم الفوضى المطلقة لذرات الكون وجزئياته المتناهية الصغر والتي انتشرت في الفضاء بعد «الانفجار العظيم» فإن التحليل في هذه الحال تحليل افتراضي محض علمي بحت، ولا يستطيع أن يجاري دعاته أصحاب النظريات العلمية في افتراضاتهم ونتائج دراستهم، وإذا كنا قبلنا بعض المصطلحات لأسباب علمية وخضوعاً لتجارب مرّت بها بعض الكائنات في مراحل تطورها إلا أننا نرى أن إسقاط هذه المفاهيم العلمية على الواقع السياسي هو أمر لا يبدو دقيقاً فلكل عصر منطقه وحساباته ورموزه.ثانياً: إن الحروب الكبرى التي تعد احدى نماذج «الفوضى الخلاقة» لم تكن هي الأخرى مصدراً حقيقياً للنظم التي نشأت بعد ذلك. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وأيضاً مع نهاية الحرب العالمية الثانية ظهرت دول جديدة وانقسمت دول قديمة وجرى النزاع حول بعض الأقاليم على الحدود المشتركة بين الدول الأوروبية، ومع ذلك لم يزعم أحد بشكل قاطع أن تلك الخريطة الجديدة جاءت نتاجاً مباشراً للانفجارات العسكرية والحروب الدموية ولم تكن بالضرورة استمراراً للصراع بأدواته المختلفة والواقع بمعطياته المتعددة، فالعلاقة بين «الانفجار العظيم» و «الفوضى الخلاقة» قد تبدو واضحة ولكن ميلاد الحياة الجديدة بشكل أكثر انتظاماً وأشد تأثيراً وأقوى وجوداً ولا يرتبط أبداً بالانفجار والفوضى قدر ارتباطه الطبيعي بدورة الحياة وطبيعة الوجود.ثالثاً: إن مقولة الوزيرة رايس هي محاولة تبريرية تقترب من تفسير سلفها هنري كيسنجر حين تحدث عن «الغموض البناء» في محاولة لصك مصطلحات خادعة تمتص الجهود وتستحوذ على قدرات الأمم بل وتسحق آمال الشعوب. «فالفوضى الخلاقة» مثلها مثل «الغموض البناء» هي محاولة مكشوفة لتغطية الواقع وتجميل السياسات وتحسين الصورة، وما زلنا نذكر ذلك «الغموض البناء» الذي يتحدثون عنه في قرار مجلس الأمن رقم 242 الخاص بالشرق الأوسط وترك كلمة «الأراضي العربية» من دون أداة التعريف حتى يتجادل الناس ويختلفوا ويثرثروا ويستهلكوا الوقت الذي يؤدي بدوره إلى حل المشكلات الدولية المزمنة أو الإقليمية الساخنة نتيجة تغير مواقف الأطراف بفعل عامل الزمن، لذلك فإن الداهية اليهودي الأمريكي هنري كيسنجر هو الذي بشر بإمكانية ترك ملفات الصراعات الكبرى والأزمات المعقدة حتى تتولى هي حل مشكلاتها إعمالاً لعنصر الزمن. ولا شك أن هذا النمط من التفكير سيطر على الإدارة الأميركية وأدى بها وبالعالم إلى ما نحن عليه.رابعاً: إن الأجيال الجديدة من شباب ما كنا نسميه بالعالم الثالث متعطشة بطبيعتها إلى المعرفة، وفي ظني أن حال الإحباط العام التي يعاني منها شبابنا إنما تولدت عن غياب الرؤية وضبابية الهدف واختفاء الأولويات ما أدى إلى نتائج متعددة كان أهمها شيوع الفقر وتراجع الإعمار في ظل تلك النظرية البائسة عن «الفوضى الخلاقة» والتي تثبت أن الحقائق يجب أن تظل بمنأى عن تطورات الأحداث مع مزيد من الكذب على الجماهير التي تتطلع إلى حقها في حياة أفضل بكثير مما هي عليه الآن لو أنها نجحت في اقتحام مجموعات من الأفكار الدخيلة في عصرنا الحالي.خامساً: لا يخالجني شك في أن الانتصار في النهاية سيكون للإنسان لأنه هو الذي اختصه الخالق بمعجزة الخلق وصنع الوجود له واستخلفه في الأرض ولم نسمع في نص ديني أو في واحد من الكتب المقدسة إشارة إلى «الفوضى» التي تؤدي إلى انتظام الحياة واكتمال نسق الوجود. وقد يقول قائل إن فلسفة النظام الرأسمالي تنطلق بالأساس من ذلك المفهوم الذي يقوم على ترك الأمور تجري في أعنتها Laissez Faire, Laissez passer وكأنما تصور الأباء المؤسسون لفلسفة النظام الرأسمالي أنه سيعود تلقائياً إلى حال من الانتظام وإلى دورة حميدة للنشاط الاقتصادي من خلال الإطلاق الكامل للحريات التي تصل إلى حد «الفوضى» أحياناً. وهنا نذكر الجميع بالنتائج السلبية للفلسفة اليمينية المطلقة في النظام الرأسمالي الحر ونشير بوضوح إلى الكوارث المالية والأزمات التي تعرض لها النظام الرأسمالي، فالكساد الكبير عام 1929 والأزمة المالية الكبرى عام 2008 هما دليل جديد على أن «الفوضى» لا تخلق نظاماً وأن الحريات المرسلة لا تقيم فلسفة يمكن أن تنضوي تحتها الأمم وتعيش معها الشعوب وتزدهر بها المجتمعات.سادساً: إن الحرب على الإرهاب بدأت تأخذ إطار المشروعية منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 حتى أصبحت الولايات المتحدة الأميركية ترى أن أمنها القومي يسوِّغ لها أن تضرب في أي مكان من عالم اليوم على نحو انهار معه إلى حدٍ كبير مبدأ سيادة الدولة وأصبح موضوع التدخل الإنساني تحت مظلة القانون الدولي عباءة يلتحف بها الكبار لينالوا من الصغار في عالمٍ توارت فيه القواعد القانونية وسيطرت عليه مراكز القوى الدولية، فإذا كان هذا هو مفهوم «الفوضى الخلاقة» فلا كانت ولا كنّا! لأنها تعني في هذه الحال اغتصاب الحقوق وغياب العدالة وشيوع الفوضى.سابعًا: إن سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين في العلاقات الدولية المعاصرة هي نموذج صارخ لما يسمونه بـ «الفوضى الخلاقة»، لأنني أظن عن يقين أن تلك السياسة غير المتوازنة جرَّت على عالم اليوم ويلات من دون حدود ووضعتنا أمام خريطةٍ سياسية دولية مختلة وفتحت الباب أمام صراعات إقليمية لا تنتهي، ولست أرى في المستقبل القريب أو البعيد نهاية لهذه السياسات الخرقاء إلا بالعودة الى القاعدة القانونية مع تسليمنا ببعض دوافع القانون الدولي الإنساني الذي يبيح التدخل عند الضرورة في شؤون الآخرين وبقرارٍ سليم في إطار الشرعية الكاملة.ثامناً: إننا نشهد جميعاً تهاوي المنظمات الدولية العالمية والإقليمية فلم يعد لها نفس الزخم ولا ذات التأثير بل أصبحت أداةً في يد الأقوياء يوجهونها على النحو الذي يريدون ولعل الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة في خدمة المصالح الأميركية هو خير شاهدٍ على ذلك، فلقد تحوّل مجلس الأمن إلى مجلسٍٍ أميركي بالدرجة الأولى، ويكفي أن العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً لم يتمكنوا حتى الآن من الحصول على قرارٍ واحد بإدانة الدولة العبرية رغم جرائمها المتكررة.تاسعاً: إن الأمر لا يتوقف عند أزمة القانون الدولي أو محنة المنظمات الدولية ولكنه يتجاوز ذلك ليطرح طبيعة الفهم الغربي لمفهوم «الفوضى الخلاقة» التي صدَّرت للعقل الإنساني مفهومين متعارضين في وقتٍ واحد، أولهما يقوم على فلسفة «العولمة» بينما يقوم الثاني على فلسفة «صراع الحضارات»، وهما طرحان متناقضان تماماً بما يعكس حال التردّي التي نعيشها وفوضى التفكير في العقل الغربي المنحاز لمصالحه الرافض لغيره والذي يقوم بعملية توظيفٍ دائمة للنظريات والنصوص في خدمة الأطماع والمصالح بغض النظر عن الحقائق الموضوعية والالتزامات القانونية.عاشراً: إن «الفوضى الخلاقة» قد لا تكون هي السبيل إلى عالمٍ جديد أكثر استقراراً وأمناً بل ربما تحولت إلى سيفٍ مسلََّط على رقاب الأمم ومقدرات الشعوب. ونحن نرى أن «الفوضى الخلاقة» لم تأتِ مثلما هو الأمر في تفسير النشأة البيولوجية للكون بعد «الانفجار العظيم» بل ربما سبقته هذه المرة حتى أننا نتصور أحياناً - وفي ظل الإحساس بروح التشاؤم - أن «الانفجار الإنساني العظيم» قادمٌ لا محالة وسيكون كاسحاً ومدوياً ومؤلماً.هذه ملاحظاتٌ عشر في سياق قضيةٍ مهمة مؤداها أن القياس في العلاقات الدولية المعاصرة يحتاج إلى قدرٍ أكبر من المعالجة الموضوعية من أجل مجتمعٍ متطور على أسسٍ محايدة وباختيارٍ طوعي يبرأ من سياسة ازدواج المعايير ولا يعرف فلسفة الكيل بمكيالين، لأن الذين يتحدثون عن «الفوضى الخلاقة» يجب أن يدركوا دائماً ارتباطها بـ «الانفجار العظيم».[c1]*عن صحيفة “الحياة” اللندنية[/c]
|
اتجاهات
الانفجار العظيم والفوضى الخلاّقة
أخبار متعلقة