د . عبدالمطلب جبرلعل الآراء التي أشاعتها كتابات الدكتور طه حسين عن الأدب في الجزيرة العربية حتى نهايات الثلاثينيات من القرن الماضي قد أثارت كثيرا من ردود الفعل بما أدى إلى تحريك الراكد والمخبوء.. وحول التململ الثقافي المتواضع في شبه جزيرة العرب إلى نشاط فكري وثقافي، ولربما كان رأي طه حسين وسؤاله الشهير : وهل لليمن شعراء؟ قد دفع بأكثر من باحث إلى تمحيص المقولة ومناقشتها في إطارها التاريخي والثقافي.لقد فجر كتاب (في الشعر الجاهلي) 1926 الذي أورد تلك العبارة حركة جدل تمثلت في كتابات أخذت على عاتقها ومهمة الرد في زوايا متعددة فكرية ودينية وثقافية وغير ذلك نذكر منها : (تحت راية القرآن) للرافعي و(نقض كتاب في الشعر الجاهلي) للأستاذ محمد خضر حسين و(النقد التحليلي) للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وكانت ردودهم في حدود مناقشة القضايا المثارة في الإطار التاريخي والأدبي العام، لكن أبعاد ذلك السؤال فيما يخص اليمن ظل شديد الوقع على نفوس أدبائه ومثقفيه، فظهرت منذ الأربعينيات تلك الكتابات والردود فيما يشبه المرافعات الفكرية والإبداعية.. إن ردودا ضمنية على تلك المقولة تدرك من خلال ما كتبه الأستاذ عبدالله العزب والأستاذ محيي الدين العنسي على صفحات مجلة (الحكمة) منذ بداية الأربعينيات.. بل يقدم العنسي ديوان السالمي.. صورة من صور النهضة الشعرية الحديثة امتدادا لعطاء اليمن الشعري في تاريخ الأدب العربي.. وهو ما فضل الحديث عنه العزب في سلسلة المقالات التي نشرتها المجلة في تلك السنوات من الأربعينيات وتتعدد الكتابات في هذا الإطار وتتوالى فينشر أحمد الشامي كتابه (قصة الأدب في اليمن) عام 65 ويصور الشاعر الأستاذ محمد سعيد جرادة (الأدب والثقافة في اليمن عبر العصور) عام 77م من القرن الفائت، ولم تغفل الصفحات إلا وفي الكتابين مناقشة الدكتور طه حسين فيما ذكره في كتابه ذاك الذي صدر بعد تنقيحه بعنوان (في الأدب الجاهلي).. في زمن لاحق ومنتصف الثلاثينيات تحديد من القرن الماضي.. يبدي الدكتور طه حسين رأيـا عن أدب هذه البلاد في كتابه (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) 1935.. ويقول عن اليمن والحجاز إن الشعر فيهما متأثر بشعر عصور الانحدار كما ظهر عند شعراء الشام ومصر قبل النهضة الحديثة ويردف قائلا : تكلف نفسك مشقة إن أرت تلتمس في البديع وتدور حول معان تافهة (طه حسين 284)، على الرغم من أن الثلاثينيات قد شهدت بوادر خروج من سطوة عصور الاجترار والتخفف من الاحتذاء والمحاكات لنمط الشعر القديم. في هذا الزمن.. وهذا السياق يصدر كتاب (من وحي الصحراء) 1936 لمؤلفيه : محمد سعيد عبد المقصود وعبدالله عمر بلخير ليكشف عن صورة التطور الأدبي في تلك البلاد.. عن أدب تشرب قيم العصر فنيـا وفكريـا وإن بدت بصورة متواضعة.. ولكن بما يشي بتنام تدريجي، وظل هذا الكتاب في المؤلفات المبكرة والرائدة التي تؤرخ لبداية التحديث الأدبي، إذا عرفنا أن ذلك قد رافق نشوء الدولة السعودية الموحدة فجهود الملك المؤسس عبدالعزيز كانت تدفعه من خلال توطين البدو وتعليمهم والإفادة مما هو قائم من حياة حضرية إلى ترشيح وتخدير عمليات التحديث التي ستولد مجتمعـا ومن ثقافة حديثة (باقادر، 2305) كان كتاب من وحي الصحراء بداية للتعريف بالأدب العصري كما تشير عبارة ا لغلاف، وإن كنا نجد باحثـا سعوديـا لاحقـا قد جعل من الكتاب موضوعـا وتمثيلا لرؤية سائدة آنذاك فأطلق تسمية (أيديولوجيا الصحراء) فكأن الكتاب إحالة إلى هذه المرجعية وتمثيلا لهذه الأيديولوجية (سعيد السريحي، 2002م) ولا تخطئ القارئ الرؤية الضمنية للكاتب الذي يرى في تلك النصوص عائقـا أمام تيار التحديث الشعري والأدبي. على الرغم من أن أحد قراء هذه الصحراء ووحيها الأديب الشاعر محمد حسن عواد الذي يعد كما يقول الفذامي أحد رواد التجديد والداعين له منذ مطلع حياته وكتابه (خواطر مصرحة) شاهد على ذلك .. وربما مثل آخر كتبه (الطريق إلى موسيقى الشعر الخارجية) 1976م امتدادا لمنزعه الجديد وبلغ به الانتماء إلى التجديد - وهو الذي نشأ في بيئة محافظة - إلى التشريع لأنماط الشعر الجديد والأجد إذ يقول : فالشعر الحر إذن تجديد لا ابتداع وكذلك المنثور (الفدامي، 1999).لقد كان لكتاب (من وحي الصحراء) أصداؤه في جنوب الجزيرة العربية، إذ كان شعراء هذا الكتاب وشعر إبراهيم العريفي من البحرين مقروءا في جنوب الجزيرة، وكان العريفي متابعـا لما ينشر في صحيفة (فتاة الجزيرة).. وربما كانت مخطوطة (الحجازيات) للشاعر علي أحمد باكثير تكشف عن الروابط والصلات بين شمال الجزيرة وجنوبها.. وفي مراسلاته الشعرية ضمن هذه المخطوطة ترد أسماء الأدباء والشعراء محمد أمين الكتبي محمد حسن الكتبي وأحمد إبراهيم الغزاوي الذي وصفه باكثير بشاعر الحجاز وخاطبه في راثيته بقوله :[c1]يا شاعر الحرمين بل يا شاعر الملك الكبير[/c]ولعل من شواهد الاحتفاء بكتاب (من وحي الصحراء) في جنوب الجزيرة ما نشرته الصحيفة الرائدة (فتاة الجزيرة) عام 1940 تحت عنوان الحياة العقلية في الجزيرة العربية (عدد 38) إذ كان الكتاب مادة افتتاحية العدد في تلك السنة.. ولم تقف متابعة النشاط الفكري عند هذا المقال، فقد نشرت الصحيفة ذاتها مقالاً للأستاذ المرحوم هاشم عبدالله بعنوان (حركة التأليف والنشر في الجزيرة العربية) فتاة الجزيرة 1942م).. ومن شواهد الروابط الثقافية.. تلك المقدمة التي كتبها الشاعر البحراني إبراهيم العريفي لديوان محمد عبده غانم الثاني (موج وصخر) 1962 وقد طلب منه الشاعر التمهيد له .. ولعل كتابـا وشعراء ينحدرون من جنوب الجزيرة قد ساهموا في التعريف أو المشاركة أو مواكبة الحداثة الأدبية في المملكة العربية السعودية.. والكويت وربما يصعب إغفال ذكر الشاعر والأديب أحمد السقاف (2010م) عند الحديث عن الحياة الفكرية والثقافية في الكويت.. كان شاعرا كبيرا ومن مؤسسي كثير من منابر الثقافة والإعلام في هذا القطر الشقيق. وقد كان أحد مؤلفي كتاب (من وحي الصحراء) الذي أشرنا إليه هو الأستاذ عبد عمر بلخير (2002) ينحدر من حضرموت اليمن.. وشغل منصب السكرتير الإعلامي للملك عبدالعزيز.. وتذكر مرويات حياته أنـه مترجم اللقاء بين الملك وروزفلت وتشرشل وكان قد تخرج من الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1936م، ومن هؤلاء الذين ينحدرون من جنوب البلاد الأكاديمي والأستاذ الجامعي الدكتور أبوبكر باقادر بترجمة كتاب (مورفولوجيا الحكاية) لبروب أحد أهم النصوص للشكلانيين الروس، وهو ينحدر من أصوله كسابقه من حضرموت اليمن، وربما كانت قراءته لكتاب الفذامي (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية من أرصن القراءات التي حاورت المؤلف اتفاقـا واختلافـا حول هوية الحداثة مفهومـا ومصطلحـا ثم تطبيقـا على التجارب الأدبية في المملكة (علامات، 2005م). وإذ نصل إلى ما يتصل بالحداثة. نختم هذا المدخل الذي جعلنا توطئة لقراءة (شعريات سعودية) 2007م والكتاب مختارات من الشعر الحداثي في المملكة قام بإعداده الشاعران عبدالله السفر ومحمد الحرز وبعنوان (يصرون على البحر).(يصرون على البحر) هو عنوان هذه المختارات التي أطلق عليها المعدان : شعريات سعودية.وقد جاء هذا الكتاب استجابة لطلب من وزارة الثقافة الجزائرية في إطار تظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية 2007م ضمن سلسلة انطولوجيات عالمية تحت إشراف منشورات البيت الجزائر.. وهذه الشعريات هي السلسلة الأولى في انطولوجيات عربية.. وقد شملت نصوصـا لسبعة وثلاثين شاعرا من المملكة العربية السعودية يمثلون أجيالا مختلفة من الكتابة الشعرية الحداثية.. يصرون على البحر عنوان مستقل من قصيدة للشاعر إبراهيم الحسين المهاداة إلى الشاعر البحراني قاسم حداد، هم أجيال مختلفة وأعمار مختلفة أصغر شعراء هذه المختارات هو شريف بقنه (من مواليد 1981)، وأكبرهم الشاعر محمد العلي (من مواليد 1932).. ديباجة الكتاب تمهيد للإطار التاريخي والثقافي للنصوص المختارة من شعر الحداثة.. ذلك أن جذور المشهد الشعري لم تترسخ بالمعنى التحديثي في تربة الجزيرة العربية؛ إلا في إبان الفترة التي تم فيها توحيد المملكة : الاستقرار الاجتماعي في إطار الممكن والواقع، والحجاز أكثر المناطق تأثرا بمسار تلك التحولات لأسباب جغرافية وتاريخية وإن لم تخل بعض المناطق الأخرى من هذا المتأثر وأن الوتيرة أقل أو ربما تمثل النصف الأول من القرن العشرين مرحلة مفصلية في تطور القصيدة بما شكل لاحقـا القاعدة التي بنت عليها الأجيال الجديدة سمات المشهد الشعري وتعتمدها ركيزة للنهوض