قصة قصيرة
وقف سعيد على سقف كوخه المتهالك..حملق في وجه الليل الشتائي الأعمى..لم يكن ثمة سوى السحب السوداء الكئيبة المتردية من على الجبال المحيطة..والفئران الساعية ذهاباً وإياباً والتي تبدد كأنها تقيم الليلة حفلة وداع من نوع خاص..راقصة على بعض ذكريات أصدقائه الذين ملوا شكواه قبل أن يهجروه نهائياً قبل شهور من الآن. بطنه الفارغة لم تمل من قرصه كالعادة..لكنها الآن تقرصه بعنف..شكا إلى الله حاله في هذه الليلة.. وبطالته التي أصابته منذ زمن بعيد..وفراغ جيبه ..جلس على الأرض بقدر كبير من الخوف..أحس بارتفاع عدد ضربات قلبه،وارتعاش جسده النحيل،وشدة دوران الأرض..أعاد للمرة العشرين تفتيش محفظته وجيوب قميصه..وفي كل مرة كانت يده تخرج دون جدوى..صرخ بما يشبه الزئير..تلوى بعنف..- شاموت!!قالها بضعف ممزوج بشعور شديد بالغثيان..ضرب بيديه على الأرض..الوقت يمر بطيئاً..الساعة لا تزال الثامنة والنصف مساء..تيارات الهواء تزداد برودة..حملت قدماه النحيلتان جسده وهما تهتزان كقدمي وليد ينهض لأول مرة..نزل من السقف بطيئاً..خرج إلى الشارع..حملق يمنه ويسره حتى بدا كأنه ينتظر شيئاً ما..شيئاً ما سيأتي لا محالة من هنا أو هناك.الشوارع كانت مكتظة بمن فيها..وهذه حال هذه المدينة..لا احد يعبأ بأحد..لا أحد ينظر إلى أحد.. الجميع مشغولون بأعمالهم وأنفسهم..أو ربما ببطالتهم وبطونهم..شعر كأن الأحياء مجرد جنادل وصخور صماء تتحرك..صعب عليه أن يمد يديه للسؤال..مشى على رصيف الشارع..جسده المرتعش يترنح كالسكران..وفي بعض الأحيان كان يصطدم ببعض ممن حوله من المشاة والمركبات الواقفة.لم يسلم من التعليقات المسرعة..ومن الشتم خصوصاً من النساء..إحداهن نعتته عن احتكاك جسده بجسدها بأنه قليل أدب..وأخرى بالعاشق الكذاب..وثالثة صفعته بحذائها بصمت ومشت..وفجأة أجتمع عليه عدد من الأطفال يمطرونه بالحصوات والأحجار الصغيرة..ثم رفعوا أصواتهم في وقت واحد:- ساكران سا..كران..ساكران لم يحتمل كثيراً..سقط على جانب الرصيف..صرخ بعض الكبار بالأطفال..تفرقوا..الجوع كان ينهش بطنه بعنف..وجسده يزداد ارتعاشاً..فيما البرد يأكل أطرافه حتى غطاه الشارع بقدر كبير من الأوراق المتطايرة..والأكياس الورقية الممزقة والقذرة.ذهب في شبه غيبوبة ونعاس..وفجأة صحا..نظر فيما حوله..الساعة الآن الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل..لم يكن ثمة سوى الرياح الباردة..وركام القراطيس والقشرة على جسده..وقليل من الناس هنا وهناك يمشون ببطء وبعضه سكارى تجمعوا في بعض الأزقة يضحكون تارة ويتصارعون أخرى.بكى بحرقة..تلوى حتى صار مثل كرة مهترئة..وفجأة سمع من بعيد حفيف ورقة قادمة مع الرياح..سمع صوتاً مميزاً..نسي نفسه وكل ما فيه..أنقض على الورقة قبل أن يراها أحد..امسك بها..حدق فيها- إنها عشرة دولارات!!قالها بفرح غامر..قبلها بشغف عارم وأضاف:- سأكل وأشرب ما أشتهي الليلة.أنطلق كالرياح نحو أقرب مطعم شعبي في الحي..وقبل أن يصل الباب..كانت روحه قد سبقته.. غادرت جسده النحيل..غادرته وهي تحلم ولو بقطعة سمك مشوية..ولو بقرص خبز دافئ في أتفه مطاعم الفقراء.