عبدالحميد الأنصاري:بعد الزلزال الكارثي الإرهابي الذي ضرب أميركا في (11/9) وما تلاه من توابع وارتدادات اجتاحت عواصم أوروبية وعربية وإسلامية، أصبحنا كلنا ـ فجأة ـ وسطيين وأهل اعتدال نستنكر التطرف والغلو وندين فاعليه ونبرئ الإسلام منه. وشهدت الساحة العربية، والخليجية، على وجه الخصوص ـ حركة نشطة نحو تنظيم سلسلة من المؤتمرات والفعاليات حول «الوسطية» و«الاعتدال» و«الحوار مع الآخر» امتدت شرقاً وغرباً، يحتشد فيها علماء ومشايخ وباحثون يأتون من كل مكان ليؤكدوا وسطية الإسلام وليصححوا صورة الإسلام والمسلمين أمام العالم. ولعل الكويت التي رصدت (5 ملايين دينار) عبر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والتي شكلت لجنة باسم (تعزيز الوسطية) هي الأكثر اهتماماً ونشاطاً في مشروع « الوسطية»، فقد شهدت الساحة الكويتية العديد من المؤتمرات والندوات وورش العمل حول «الوسطية» وامتدت مؤتمرات (الوسطية) وغزت ـ أوروبا وأميركا ـ مؤخراً، ليتم إنشاء (المركز العالمي للوسطية). الآن، التساؤلات المطروحة حول هذا الاهتمام المفاجئ لتعزيز مفهوم الوسطية، عديدة وجدلية وتحمل الكثير من المفارقات المدهشة. ولعل أول تلك التساؤلات: أين كان هؤلاء العلماء والمشايخ من مفاهيم الوسطية والاعتدال؟! ولماذا لم تثمر جهود مؤسسات التوجيه الديني ومنابر التوعية في تحصين الشباب بثقافة الوسطية على امتداد نصف قرن؟! أليس ـ هذا الاهتمام المكثف الآن بالوسطية ـ إقراراً صريحاً بفشل مناهج التربية الدينية وإخفاق التعليم والخطاب الديني ـ معاً ـ في تعزيز المناعة المجتمعية ضد أفكار التطرف والغلو؟! أليس ذلك اعترافاً واضحاً بأن كل الجهود والموارد التي بذلت في التعليم والتوجيه والتحصين قد ذهبت هباء؟! وإذا كان الاهتمام بالوسطية كمفاهيم وثقافة ليس وليد رد فعل للأحداث الإرهابية ونتيجة ضغط المجتمع الدولي فلماذا لم ينجح (دعاة الوسطية ورموزها) من غرس مفهوم الوسطية في التربة المجتمعية رغم توافر الموارد والإمكانات والنفوذ والإشراف والتوجيه؟! وما هي الضمانات الفعلية التي تطمئننا بأن ذلك الفشل لن يتكرر هذه المرة أيضاً؟! بعد سنتين وحتى الآن على جهود المعنيين بالوسطية في الكويت والأردن وقطر وغيرها لا نجد في الأفق ما يشير إلى نجاح تعزيز مفاهيم الوسطية والاعتدال وقبول الآخر والتسامح في البنية المجتمعية لا على المستوى السياسي ولا الإعلامي ولا الثقافي أو حتى على مستوى الخطاب الديني المتداول في الساحة. لا يزال الخطاب الديني ـ وبإقرار كل المطالبين بتجديده ـ يفتقد الوسطية والاعتدال، الخطاب الديني عبر المنابر الإعلامية والدينية ـ بوجهه السياسي ـ خطاب معاد للعالم وللحضارة الغربية بصفة خاصة وأميركا على وجه أخص، لأنه ينطلق من هواجس مستحكمة فيه تدور حول نظريات التآمر العالمي على الإسلام. والخطاب الديني ـ بوجهه التقليدي ـ هو خطاب طائفي محرض ضد الآخر المختلف مذهباً أو طائفة (شيعة وسنة، سلفية وصوفية)، ولعل أبرز تجليات هذا الخطاب هو ما نراه مجسداً من اقتتال وتناحر وصراعات في العراق ولبنان والجزائر والسعودية ، بل إننا نشاهد معادلة عكسية، كلما زادت مؤتمرات (الوسطية) في الساحة، ازدادت معدلات العنف والتعصب وثقافة الكراهية. لا يزال الخطاب الديني وهو مرتكز جهود (الوسطية) خطاباً غاضباً إقصائياً للآخرين المخالفين، لا يزال خطاباً ذكورياً، لا يزال فاقداً للوسطية، بل إن بعض دعاة ورموز الوسطية الذين يشهدون مؤتمرات الوسطية ويتغنون بالوسطية هم أنفسهم إذا رجعوا إلى قواعدهم انقلبوا ـ فجأة ـ وعادوا إلى ما كانوا عليه من إقصاء واتهام للمخالفين، مسايرة وارضاء لمريديهم وأنصارهم. إن أكثر ما أخشاه وعلى الرغم من صدق النوايا وكثرة الجهود وتوافر الموارد أن يصبح مفهوم (الوسطية) شعاراً مثل بقية شعارات أمة العرب المعلّقة منذ نصف قرن وهي كثيرة: الوحدة، الحرية، الديمقراطية، التنمية، الإسلام هو الحل، تحرير فلسطين، الإصلاح. فنحن أمة لطالما تغنّت بالشعارات والمفاهيم الجميلة، ولكننا أمة ـ أيضاً ـ لطالما أساءت إلى تلك الشعارات،والمفاهيم بل وقتلتها!! وإن كثيراً من الأفكار الجميلة يجني عليها دعاتها المتحمسون لها بضيق صدورهم لتقبل النقد من قبل المخالفين، بعدم التزامهم هم أنفسهم بما يقولون ويصرحون، باحتكارهم للحق والصواب، باتهامهم للآخرين، بسلوكياتهم وتعاملاتهم المتناقضة للوسطية والاعتدال، إن أقتل داء للوسطية عدم مصداقية دعاتها، فتلك تهز الثقة وتحبط الجهد وتبدد العزم. أذكر منذ سنوات أني حضرت الندوة السابعة لمستجدات الفكر الإسلامي بالكويت وكانت ورقتي حول: كيف تم تشويه مفهوم الجهاد عبر التاريخ الإسلامي، بدءًا من الخوارج ومروراً بالفقهاء الذين سوغوا جهاد (الطلب)، ثم مفاهيم سيد قطب وانتهاء بالخوارج الجدد. وأذكر أني انتقدت موقف الجماعات الإسلامية وبالأخص موقف الإخوان المسلمين في الكويت من الاستعانة بقوات التحالف لتحرير الكويت، فقام رمز إسلامي وسطي من الإخوان غاضباً معنفاً وهو الآن يشغل مركزاً مهماً في فعاليات ولجان الوسطية في الكويت!! ومن ثم لم أُدع إلى مؤتمر وسطي في الكويت منذ ذلك الوقت. والمصداقية أهم صفة يجب أن يتحلى بها دعاة الوسطية حتى ينجحوا في مهمتهم وذلك لن يتحقق إلا بترجمة الوسطية سلوكاً وتعاملاً وممارسة كما أن الوسطية لن تحقق نجاحاً إذا اكتفت ( بالمؤتمرات والحملات الإعلامية) لابد من منهجية وآليات وخطط تتغلغل داخل النسيج التربوي والتعليمي وتحكم منهج الخطاب الديني عامة. [c1]* نقلا عن/ صحيفة (البيان) الاماراتية[/c]
أخبار متعلقة