رواية تعجن الفلسفة بالأفكار وتعري الفنان من الداخل
جورج جحا رواية الكاتب الألماني ميشائيل كروغر (الكوميديا التورينية) المترجمة إلى العربية عمل متميز وثري دون شك ولكنه في الوقت نفسه عمل صعب قد يكون (مرهقا) أحياناً في بعض مجالاته.وربما كان من طبيعة عمل فكري نفسي من هذا النوع أن يسبب شيئا من التعب لقارئه إلا أن قراءة هذا العمل في غير لغته الأصلية ودون تكيف ضروري بالعربية قد تكون سببا إضافيا في إرهاق القارئ.غلاف الرواية التي تجري أحداثها في تورين في ايطاليا حمل عنوانا هو (الكوميديا التورينية) أما العنوان الداخلي المفصل فقد كان (الكوميديا التورينية .. تقرير مدير التركة الأدبية).وواضح أن العنوان جاء مقصودا وفي شبه اقتباس عن ايطالي شهير في عمله الذائع الصيت (الكوميديا الإلهية) ألا وهو دانتي الياري 1265ـ 1321) ورحلته إلى العالم الآخر.في الرواية رحلة من نوع آخر إلى عالم آخر وهي غوص في النفس البشرية وتعرية للفنان نفسيا وفكريا وتصويره أحيانا بشكل مغرق في الأنانية وعبادة الذات والاستخفاف بالآخرين الذين يبدو انه يعتبرهم خلقوا للدوران في فلكه إذا لم نقل (عبادته) بمعنى من المعاني، وهنا يجد القارئ تصويرا لمعاناة أشخاص تحمل سمات “جحيمية” من نوع آخر.وفي الرواية كشف عن حال تشبه حال جفاف القدرة على الخلق، وسعي الفنان إلى تغطية ذلك بحجب وطبقات وأقنعة، وهو هنا “كما في السابق” يمارس سادية تلذ بتعذيب الآخرين ويبدو أحيانا انه يلذ بتعذيب الذات.جاءت الرواية في 191 صفحة متوسطة القطع وبلوحة غلاف للفنان عادل كامل وصدرت عن مؤسسة محمد بن راشد المكتوم في دبي بالتعاون مع مؤسسة شرق غرب في دبي أيضا.وقامت بنقل الرواية إلى العربية فاطمة عبد الهادي وهي جزائرية من مواليد ألمانيا وحائزة على شهادة الدبلوم للترجمة وعلى إجازة لتدريس الألمانية، كما تعمل مترجمة محلفة في برلين، أما عملية تحرير الرواية “العربية” فقد قام بها الروائي والصحافي المصري سعد القرش والشاعر العراقي علي الشلاه.إنها عمل روائي يحفل بالفكر فالكاتب كما يقول سعد القرش يتمتع بسعة الخيال وبقدرة (على عجن الفلسفات والأفكار) وبقدرة متميزة على اختصار كل ذلك.البطل صاحب الصيت الذي تحول إلى ما قد تصح تسميته (معبوداً) لكثير من قرائه فتهافتت عليه النساء يبدو بعد عمل سنوات الزمن فيه وقد تحول إلى شخص فارغ جاف من الداخل والى حالة تشبه الموت لكنه بقي محافظا على قدرته الساحقة في التحكم بأصدقائه وصديقاته وجعل الجميع يخدم غايات يريدها هو.إنها علاقة أشبه بعملية تنويم مغناطيسي يسيطر فيها على النائم فيبقى هذا في حال من التبعية للبطل، أنها صورة الفنان الذي نضبت قريحته وجف إبداعه فتحول إلى طاغية على من حوله ليحافظ على صورته القديمة.وربما وجد القارئ العربي نفسه يتذكر قصيدة الشاعر الراحل خليل حاوي الشهيرة “لعازر 1962” عن البطل القومي الذي انتهى لكنه لا يقبل ذلك، استعمل حاوي قصة العازر الذي أقامه المسيح من الموت بعد ثلاثة أيام من وفاته، العازر الجديد الذي سحقته القوى الكبرى أعيد إلى “الحياة” لكنه بقي ميتا، لم يستطع الانتقام من القوي فارتد على شعبه وهو هنا في صورة زوجته بطاشا رهيبا.إلا أن بطل ميشائيل كروغر وجد في نهاية الأمر انه لا مجال للتخلص من “موته” إلا بالانتحار، لكنه “هندس” انتحاره متحكما بمن حوله في موته كما تحكم بهم في حياته، وتبدو أنانية الفنان رهيبة قد تفوق أنانية الطاغية المستبد.الموت يخيم على أجواء الرواية.. الموت الفعلي والموت المجازي المتمثل بالجفاف.. الجفاف الأدبي الذي يسعى صاحبه إلى إخفائه.تبدأ الرواية من نهاية حياة رودولف الكاتب الألماني الذي اكتسب شهرة كبيرة والذي عاش في ايطاليا، عاش في تورين التي يصفها الكاتب بأنها مدينة المنتحرين، لقد انتحر وأوصى بأن يتولى إدارة تركته الأدبية صديقه الوفي رأسماله بمكر خطا الزاميا في تحركه.البداية في الكنيسة خلال مأتم الراحل، يقول الكاتب (يصعب التخمين كم من الناس كانوا موجودين في الكنيسة الصغيرة، المؤكد أن القاعة السفلية نصف الدائرية ممتلئة تماما، كان على الموت أن يحجم نفسه كي يتمكن من المرور... ليحصل على مكان ما...).بعد الانتهاء من الرواية قد يجد القارئ نفسه أمام قراءتين لبدايتها.. قراءة فعلية عن الموت ورائحته، وقراءة رمزية عن كون حرق الجثة هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على رائحة الموت، ويبدو أن هذا ما فعله بطريقة أو أخرى الصديق مدير تركة الكاتب الأدبية.نتابع القراءة (كانت هناك رائحة نتنة.. رائحة تميز كل كنائس المقابر وقاعات الصلوات.. ومع هذا لا يمكن وصفها، أيقال كريهة نتنة.. لا يمكن إغفال البخور والعطور المتطايرة هنا وهناك غير أن كل هذه الروائح المركزة لا يمكنها أن تحول دون تسلل هذه الرائحة إلى الملابس والالتصاق بالجلد حتى الموت عند بعض الناس فيدفنون بهذه الرائحة أن لم يصر ورثتهم على حرقهم، حقيقة محزنة أن يوارى احدنا بهذه الرائحة التي من المتوقع أن تشغل كل المعزين هنا).نجد أنفسنا لاحقا مع الصديق ومجموعة من النساء.. الزا زوجة البطل المريضة المشرفة على الموت، وايفا التي أحبته بعد أن تخلت عن الصديق المدير، ومارتا القوية التي كانت تتولى إدارة مكتب الراحل والتي ربطته بها أيضاً علاقة كما يبدو.وتتكشف لنا علاقة بين رودولف وهؤلاء كلهم وغيرهم ربما يصح وصفها بأنها استبدادية من ناحية وتبعية من ناحية أخرى ومرضية، ففضلا عن الأنانية والسيطرة على النساء نجد إن الكاتب في الأيام الماضية مثلا كان يستعمل حتى فرشاة أسنان صديقه دون خجل أو تردد، وكأن هذا لا يكفي إذ أننا نجد الصديق وقد انزل في منزل صديقه البطل يستعمل فرشاة أسنان الراحل في ما يمكن أن يكون من بعض النواحي رمزا مثيرا للقرف لسيطرة ساحقة من ناحية، وتبعية مماثلة من جهة أخرى. الآخرون من “الخارج” ينظرون إلى البطل بإعجاب وإجلال، إما الحقيقة فهي غير ذلك من (الداخل).انه قاس وأناني، وهو في النهاية نسيج من أفكار ومشاعر ونظريات الآخرين الذين سبقوه دون أن ينتبه الناس والمعجبون به إلى الأمر، وبدا أن ميشائيل كروجر يورد لنا هنا حقيقة شاملة إلى حد بعيد وهي أننا عامة والكتاب والشعراء بشكل خاص تراكم وتشكيل لما مضى وما قيل وما سمع وان في حياكة جديدة بخيوط الماضي.في النهاية تبين للصديق أن الراحل رسم مخططا لسيرته وتجاربه أراد فرضها بعد وفاته، ومما اكتشفه الصديق في التركة رسائل عديدة من نساء دعونه إلى علاقات، فلبى منها ما لبى لكنه احتفظ بالرسائل التي يفترض أن تكون سرية وان تتلف وأراد نشرها بعد وفاته، وكأن (الينبوع الجاف) الراحل يقول انه إذا لم تعد القدرة على الخلق والإبداع متوفرة فلابد من الحفاظ على الذكر والشهرة من خلال فضائح تبقي له دور البطل.أنها لرائحة تشبه رائحة الموت التي حدثنا عنها الكاتب في البداية، لكن الصديق قرر وللمرة الأولى كما يبدو الخروج على تحكم صديقه الراحل، وقد قرر كذلك منع انتشار هذه الرائحة وعدم إرضاء أنانية تريد إن تتحكم من داخل القبر، قرر الصديق إخفاء تلك الرسائل.ويقول الصديق عن رودولف (الجزء الأكبر من حياة رودولف ‘مثل حياة النسوة اللواتي لاحقنه) كان فارغاً مليئاً بأشياء عادية تتكرر، لقد نجح كما هو واضح في أن يجعل من هذه التفاهات سراً كبيراً، يبدو انه قد ضيع وقته في أن يعيش حيوات متعددة وأن يهب المقربين القلائل منه حياة حقيقية وواقعية... وأنا أميل إلى رأي يتلخص في إن رودولف قد سخر منا جميعا، من الممكن أن نقولها بعبارة أخرى.. لقد قام بخيانتنا جميعا وهرب في الوقت المناسب.والرواية إذن ذات كثافة فلسفية وفكرية ضغطها الكاتب في عمله فجاء ما رواه في حالات عديدة جميلا ونفاذا، الآن انه من نواح عديدة أيضاً جاء مرهقا إلى درجة.. فقصص معظم من في الرواية من أشخاص إنما هي قصص رودولف، وربما كان هذا جميلا تماما لو جرى من خلال كل شخص منهم.. رسم وجه معين أو صورة محددة للبطل تتكامل في ما بينها، إلا أننا كنا بين فترة وأخرى نعود إلى ما سبق أو إلى نقطة بداية ما دون إضافة تذكر أو تستحق هذه الكثرة من الكلام شبه المكرر.ولا شك في أن ترجمة النصوص كانت تأتي أحياناً وقد فرضت على نفسها أعباء ثقيلة تشكل عامل إرهاق إضافياً، ومن أسباب ذلك مثلا أن المترجمة ألزمت نفسها بترجمة حرفية.. لا بمعنى التزام المعنى فحسب بل بمعنى التزام ترتيب الكلمات والجمل وأشباهها كما هي في الألمانية تماما وهذا أمر قد يصبح في النص العربي ممضا ومرهقا ويكاد يضيع المعنى.من الأمثلة العديدة في هذا المجال حديثه عن مرض الزا إذ يقول (كنت أخاف أن يطول مرضها ومكوثها في المستشفى ولكنني لم أشأ تصديق احتمال موتها وان أتخيل تدخل أختها ‘امرأة مجنونة كما وصفها رودولف ولم تسع إلى أقربائها إلا عندما اشتهر رودولف’ في شؤون الإرث يجعلني خائفا وقلقاً...).أو فلنقرأ التركيب التالي لنجد أننا أحياناً نصل إلى المعنى المقصود من خلال التكهن، جاء في النص لم استطع يوما تخيل الأسباب التي تجعل الإنسان يختار الكتابة كوظيفة أساسية، أتفهم أن يكتب شخص ما بين وقت وآخر قصائد شعر لأنه أدرك بانفعال عاطفي، انه يريد كشف جزء من كوكب مظلم يضم أشياء لم تذكر بعد عبر استخدامه للكلمات.(حتى إذا لم تطبع هذه القصيدة (وهي لن تكون معروفة إلا في حالات استثنائية) فقد جاءت من خلالي إلى الحياة، حتى نشر مقال حول أشياء ملموسة جميلة كاستمرار لكتابة إنشاء.. كتمرين مدرسي.. لا يبدو لي أمراً مشكوكاً فيه...).