كتاب
القاهرة/14 أكتوبر/ أيمن رفعت مؤلف هذا الكتاب أحمد رشدي صالح 1920 - 1980، من ألمع كتاب مصر والعرب في القرن العشرين ، عمل بعد تخرجه في كلية الآداب جامعة القاهرة ، التحق بالإذاعة المصرية ، وأصبح واحدًا من ألمع المذيعين، ثم ترك الإذاعة وأصدر مجلة الفجر الجديد ، وهي مجلة فكرية وأدبية كان لها تأثيرها الواسع علي الحياة الثقافية في مصر والوطن العربي·له العديد من المجموعات القصصية التي تتضمن القصة المشهورة التي تحولت إلى فيلم يعد من أنجح الأفلام المصرية وهي قصة “الزوجة الثانية”، وهو أيضـًا أحد رواد دراسة الأدب الشعبي وكتابه عن “الأدب الشعبي” هو مرجع أساسي في ميدانه، وللكاتب الكبير أيضـًا كتابات أدبية وفكرية وسياسية متعددة وذات اتجاه وطني·وفي هذا الكتاب “رجل في القاهرة” فيه يتطرق الكاتب لقصة حياة ابن خلدون في القاهرة بأسلوب روائي بالغ البساطة والجاذبية والعمق·وعن بداية قصة حياة ابن خلدون في مصر يقول المؤلف: في ميناء الإسكندرية رست السفينة، وفي ناحية نائية وقف رجل مهيب، قوى البنيان، ذاهلاً عن اللغط الذي تعالي بعد وصول عمال الميناء، الذين أحاطوه بقداسة وكبرياء، عندما تطلعت إليه العيون، فرأوا وقارًا ظاهرًا، وفوق جسمه عباءة وثيابـًا محتشمة، هي ثياب كبار العلماء·وعلي الساحل، أكرموا وفادة عبد الرحمن، وأرادوا أن يستضيفوه، لكنه قال إنه يفضل أن يذهب إلى فندق في المدينة، ويقضي أيامه القليلة التي يزمع انفاقها في الإسكندرية مع خادمه وصديقه التاجر، ولم يتجول عبد الرحمن في الأسكندرية كثيرًا، بقي في الفندق مع خادمه معظم الوقت، يصلي ويقرأ ويناقش الخادم، أو يجلس إلى بعض علماء المدينة الذين كانوا يزروونه بين الحين والحين ، وفي اليوم التاسع والعشرين من فترة وجوده في الإسكندرية قال لخادمه إنه ذاهب إلي الميناء، وفي الميناء ركب قاربـًا صغيرًا مصاحبـًا معه ملاحـًا، كان ابن خلدون يستمع إلى الملاح الثرثار، ويلمح في عينيه ذكاءً يبلغ حد الجنون وكان ذلك الملاح أول إنسان قابله ابن خلدون، في الإسكندرية، واستطاع أن يثير القلق الكامن في نفسه وهو غدًا سيبدأ الرحلة إلى القاهرة·ولكن حين بلغ القاهرة، ومشي وسط زحامها، ارتعش كل ما كان في ذهنه عنها، فهذه هي المدينة التي تصلح أن تكون حاضرة الدنيا، مدينة ساهرة بالليل، يقظي بالنهار، تقع علي ضفة نهر عذب مطمئن، تهب القلب والأرض والسماء معاني لم يذق مثلها عبد الرحمن، وبعد انتهاء الأسبوع الأول في القاهرة، كان اقتناع ابن خلدون بأن ما ينبغي عمله، إنما هو الكتابة، وشرع يرسم بالقلم، على أوراق أمامه، ويكتب بخط غريب فيما بين هذه الرسوم، وصلت تاج الخليفة، ومحشر الأمم، وقاهرة الدنيا، ثم يشطب ما كتبه·وتوقف عن الكتابة، فالورق لا يتسع أمامه لأخبار هذه المدينة الشاسعة التي أصبح عاشقـًا لها، وهو يدور مبهور العينين، من الحسينية إلى المشهد النفيسي، فيرى بائعي الجبنة والألبان، ويرى الطباخين، والطاعمين في شقاق حمر من الفخار، جلوسـًا علي الأرض، حفاة متزاحمين، ثم يرى أكراس هذه الشقاق، يحملها رجال النظافة ليلقوها خارج السور· ويواصل ابن خلدون المضي من جديد في هذه المدينة الساهرة المزدحمة، مدينة السوق الكبير التي يسمونها القاهرة، ويلتقي ابن خلدون بصاحبه منصور، واستقبله كما يستقبل المحب حبيبته بعد طول هجران، وأمر على الفور بأعداد مجلس الشراب، وتناول عبد الرحمن قليلاً من هنا، وقليلاً من هناك، وشرب شيئـًا من نبيذ التمر، ولم يكن يشرب ليسكر، وارتفع بعد ذلك من وراء ستار الديباج ضربات شجية من أوتار، كانت تلك هي “فضل” جارية دمشقية اشتراها منصور، وارتفع النغم واشتدت الهمهمة، وتنوعت الأغاني وسمع ابن خلدون حتي انتشى بالصوت، والمكان، رحلة مع الأزهرويشير المؤلف إلى أول يوم ذهب فيه عبد الرحمن إلى الأزهر، قائلاً: وجد ابن خلدون حلقة واسعة تنتظره، حلقة طلاب بيض الوجوه من الشام، وطلاب سمر من مصر، وطلاب وجوههم تلمع كقطع الرخام الأسود، من السودان وبربر أفريقيا·وكانت من عادة ابن خلدون في إلقاء دروسه أن يبدأها بعبارات تلقيدية يلقيها بصوت رتيب ليس فيه نبض، وكانت تلك المقدمة بمثابة تنغيم للصوت وما قصد منها إلا التمهيد لموضوعه، وكانت أول مناقشة عن كتابه في التاريخ ومقدمة عن أشياء كثيرة وأخرج ابن خلدون أوراقـًا ونشرها وقرأ منها، قلت في المقدمة “إن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه في صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء”، هذه الكلمة البسيطة “كلمة الغذاء” هي أول مفتاح نضع عليه أيدينا، والله سبحانه هدى الإنسان إلى التماس الطعام، فالطفل قبل أن تعرف عيناه صور الأشياء، يدفعه وازع في نفسه إلى طلب اللبن من ثدي أمه·ولكن الإنسان، لا يعيش فحسب بالطعام، فهو موجود في عالم، يزاحمه فيه حيوان مفترس، وطير كاسر، ومنذ ما وجد الإنسان على ظهر الأرض، وهو في حرب قاسية وفي هذه الحرب انتصر الإنسان على كل هذه الوحوش بأن الله منح الإنسان شيئين جليلين، هما اليد البشرية، والعقل، فاليدان هما الخادمان الأمينان للعقل، وقد دافع الإنسان عن نفسه، بأن صنع آلات تحل محل الجوارح، واتخذ نفسه ملبسًا ومأوي، أما العقل فهو بيت التفكير والتدبير، ومكتشف المجهول وخالق وسائل القتال والتراجع·يوم مشهودويواصل الكتاب رحلة ابن خلدون في القاهرة، فنرى أن عبد الرحمن اعتاد الجلوس إلى تلاميذه بعد صلاة العشاء في يوم الأحد من كل أسبوع وكان اليوم الثاني من شهر ربيع الأول عام 787، يومـًا مشهودًا في تاريخ القاهرة بأجمعها، لو أن القاهرة أصغت إلى الصوت الرتيب الذي تكلم أخيرًا عن أمور قُدر لها أن تتناهي مدىقرون بعد ذلك، وأن تصبح تراثـًا سابقـًا في تاريخ الناس أجمعين·فقد عاصر ابن خلدون مصرع دويلات دويلات، وصعود أخري في الأندلس، وشمال أفريقيا، وفي هذا العصر الفريد، الممتليء، الذي هاجرت قبله الثقافات العالمية، شرقـًا وغربـًا، واجتمعت أطراف منها في جامع الزيتونة، وفي جامع الحمراء، شرب عبد الرحمن وارتوى وكان الكائن الذي يحمل علامات ميلاد وعلامات موت، وفي ذهنه ولدت فلسفة تاريخ لا سابق لها، فلسفة تقول بأن الإنسان ابن بيئته، وأن البيئة المادية هي صاحبة الأمر والنهي في تشكيل أخلاق الناس·وفي هذه الجلسة قلب ابن خلدون كتابه ووقف عند سؤال: لماذا يستبيح السلطان لنفسه وهو رأس الأمة أن ينزل إلى سوق التجارة ويضارب فيها ويسبب لرعيته الخراب؟!ونرى الإجابة في مقدمته، بأن من أنواع المظالم التي يرتكبها الأمراء، وتلك هي التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم بيعها بأعلى الأثمان مستخدمين في ذلك وسائل الضغط والإكراه، وأن تفشي الظلم على هذا النحو في بلد من البلاد، يؤذن بخرابه، وانتقاله من حال إلى حال·وأصبح عبد الرحمن أستاذًا وتلميذًا في آنٍ واحد هو أستاذ لكل الناس وأحيانـًا تلميذ هؤلاء الطلاب المتوهجين بمعارف وآراء غربية، وكان في حديثه معهم يقول: لا أزعم أني فيلسوف، وإنما أنا رجل شاهد وكابد، وفكر وأراد، وتجمعت لدي خبرات أضع بعضها إلى بعض، فتتسق معـًا أحيانـًا، وأضع بعضها إلى بعض مرة أخرى، فتنفر وتعربد، وهناك بيئات خارجية تتبادل مع أعمالنا نتائجها وتؤثر جميعـًا في النفس البشرية، فنحن من بعد أبناء بيئتنا ولسنا أبناء طبائعنا، إننا نولد وصفحاتنا بيضاء، ثم نصير كتبـًا مختلفة، وكيفما يكون طعامك وعملك ومأواك والطبيعة التي حولك والأفكار والعادات السائدة في زمانك، تكن أنت·وساطة السلطانويذكر المؤلف حال عبد الرحمن والسعادة التي ملأت بيته، عندما جاءته الأنباء بأن سلطان تونس قد وافق على سفر عائلة عبد الرحمن بعد وساطة السلطان، وبأنه سيوفد مع عائلة ابن خلدون رسولاً وهدايا، ولم يجد عبد الرحمن بأسـًا في أن يضاحك تلاميذه وهم يشاطرونه طعامه، واعدًا إياهم بأنهم غدًا سيذوقون أطعمة المغرب الشهيرة عندما تستقر العائلة في هذا البيت·لكن وقعت الكارثة التي ألمت به ألمـًا شديدًا، لقد جاءت السفينة “ربع الدنيا” بأهله ومتاعه وأوراقه ووصلت الأسكندرية، ثم هبت عاصفة وأغرقت السفينة بكل ما فيها، وكان فيها شيء بالنسبة له، وأخذ تلاميذه والمعزين محاولة التخفيف عنه بأن الله وعد عباده الصابرين أن لهم الجنة، وكان رد عبد الرحمن يبدو متماسكـًا بقوله الحمد لله، إننا لا نملك غير الشكر والصبر·وفي الليل، ذلك الوقت من عمره الذي كان أحلى الأوقات وأكثرها استفزازًا للتفكير، نامت المدينة العاصية إلا اللصوص والقتلة والصعاليك وإلا عبد الرحمن وتلاميذه تذكر أنه ارتكب خطايا، وارتكب خطيئته التي لا سبيل إلى التكفير عنها وهي ترك عائلته وراءه معتذرًا بأنه يريد الحج·وكان يردد لماذا ترك أهله بعد هذا الشقاء الذي سببه لهم؟ ألم تكن هناك وسيلة أخرى، يصطنعها فينجو بها؟ ألم ينجُ هو؟ كم ذا يؤثر بنفسه؟ يا له من مذنب؟ لمن يذهب؟ ولمن يعترف؟ وما هي طريق الخلاص؟ سيقول الناس عنه، هذا الإمام الذي يقضي بيننا، ويصلي بنا، ويفسر لنا القرآن العظيم، ليس إلا شيطانـًا عظيمـًا، لم يبقَ له إلا أن يعتزل الحياة إلى الأبد·ويرى المؤلف أن عبد الرحمن مثالاً للشيوخ المراهقين، ففي السبعين من عمره، خلع جلده السابق، واعترته حمي الشباب، والشباب في تاريخه طموح· فبدأ كأنه لم يعرف هؤلاء التلاميذ، عندما طلبوا منه أن يصنع شيئـًا يكف به أيدي الأمراء عن الرعية ويتحقق للناس عدل وطمأنينة، وكان رده عليهم بأن وظيفة العالم تبعد به عن السياسة، وابتسم وقرأ لهم من كتابه فقرات يقول فيها إن العلماء لا يصلحون لتدبير شؤون السياسة·وفي خاتمة الكتاب يقول المؤلف، كانت لفافة الورق الملقاه بجوار فراش عبد الرحمن، هي أغلى أشيائه عنده، نسخة أخيرة من تاريخ حياته ورسائله إلى المغرب وإلى الشرق، وُجد ملقى على فراشه، مشدود العينين، مزموم الشفتين، صقر مات وكان على وشك الانقضاض، مخالب الصقر ممدودة نحو لفافة ورق ضخمة، وجه الصقر منقبض تحت ضوء الشموع، تلاميذه وأصدقاؤه وجيرانه، حول جسمه المهيب، خاشعون·وكانت كلمات عبد الله أحد تلاميذه، استجمع فيها كل قوة أستاذه، وكل قدرته علي التصوير والحس، وأنار جوانب أخرى من هذه القلوب، وقال عبد الله وهو يتهيأ للانصراف بعد دفن أستاذه الجليل: وموعدي معكم، كل مساء؛ لنتابع سيرة مولانا الشيخ عبد الرحمن، هنا في هذا الجامع الشريف، وإن كنت واثقـًا من أنكم ستشيعون ذكره، وتقتدون به، في شوارع القاهرة علي كثرتها، وفي أنحاء مصر على اتساعها، فعلم عبد الرحمن وحياته ميراثنا كلنا·