مجرد رأي
[c1]* في عصر الأغنية الراقية كان التعاون مشتركاً بين المطرب والملحن والفرقة الموسيقية[/c]سعيد صالح بامكريدأمتنا العربية هي أمة الرسالة الخالدة والقيم النبيلة والأخلاق السامية والثقافة الرفيعة .. ومن هذا المنطلق نجد أن ثقافتنا تمتلك على الدوام أدوات التعبير السليمة ووسائلها المؤثرة وقدرتها على الوصول والتواصل مع الناس قاطبة بسبب ما اختزنته وتختزنه من أدب رصين وشعر عميق وغناء إنساني مشوق وحكمة لا تدانيها حكمة .نعلم أن الأغنية العربية المعاصرة استندت منذ انطلاقتها إلى إرث شعري غني وموروث موسيقي بالغ الجودة ولغة عظيمة تمتلك أروع أسلوب لفظي يجعلها الأكثر صلاحية للتلحين الموزون واستيعاب كافة الجمل اللحنية ناهيك عن تراث إيقاعاتها السردية وزادها جمالاً وسحراً جيل من عمالقة الأغنية استطاعوا خلق جمهوه متذوق متعاطياً , متفاعل مع تلك الأغنية المثقلة بالحب والحزن والشجن الجميل .نحن لهذا الجيل الذي فتح عينيه على ثورة يوليو العظيمة ودعوات الوحدة .. عايشنا ورافقنا بكل ما نملك الثورات العربية اللاحقة وما تبعها من طرد للمستعمر وترسيخ الأفكار القومية والوطنية .. ومواكبة لكل ذلك تفتحت قلوبنا وأسماعنا لتلتقط تلك الأغنية الجميلة وذاك الطرب الأصيل بسبب قوة نصوص تلك الأغنية وجزالة شعرها وجودة ألحانها إضافة إلى القدرة العالية لفناني ومطربي ذلك الجيل , وفي مقدمتهم العمالقة : محمد عبدالوهاب , أم كلثوم , فيروز , عبدالحليم حافظ , فريد الأطرش , نجاة و ... و ..ألم نرضع صغاراً حب الوطن والبلاد من رائعة العبقري / سيد درويش :[c1]بلادي .. بلاديلك حبي وفؤادي [/c]كانت وسائل التعبير وأبرزها الأغنية قادرة على إيصال الفن إلى الجماهير بصورة بسيطة وعفوية وتلقائية , لكون الغناء حينها كان الأكثر التصاقاً وتعبيراً عن أفراح الناس وأحزانهم في السلم والحرب . إذ أنها - أي الأغنية - تصاحب الإنسان في حله وترحاله في سكنه وغربته بل وفي كل مكان .في الفترة ما بين 1950 - 1975م كانت الإذاعة المسموعة هي الأسرع والأقرب إلى وجدان الناس يتجمع حولها المستمعون على مختلف مشاربهم نساءاً ورجالاً وشباباً .. إضافة إلى ذلك كانت الإذاعة بمثابة المدرسة التي تؤهل وتدرب المطربين والمطربات على حد سواء .. يقول الفنان الراحل والموسيقار الكبير / محمد عبدالوهاب :( الفن مرآة تعكس المجتمع الذي يعيش فيه ) .حفل النصف الثاني من القرن الماضي بأحداث أثرت في حياة الإنسان المصري خاصة , والعربي عامة فكانت الأغنية خير وسيلة ليعبر بها عن آماله وطموحاته وآلامه وأفراحه .. نهضت زعامة / عبدالناصر .. تحققت ثورتا الجزائر واليمن .. صافحنا وواجهنا حرب 1956م ونكسة 1967م , وحرب الاستنزاف حرب 1973م .. كل ذلك عبرت عنه الأغنية بكل صدق من خلال الكلمة واللحن والأداء مناخ صحي عاشت فيه الأغنية فتطورت وازدهرت من خلال الإذاعة والتلفزيون وحفلات المنوعات وحفلات أضواء المدينة .. في تلك الفترة سمعنا أروع الأغاني الوطنية :[c1]وطني حبيبيوطني الأكبريوم وراء يومأمجاده بتكبر[/c]إلى جانب الأداء المميز لأغنية ذلك الزمان الجميل على يد العمالقة الذين ذكرنا وتتقدمهم كوكب الشرق .. كان هناك شعراء للأغنية قدموا نصوصاً بالغة الجمال مثل الشاعر / أحمد رامي , بيرم التونسي , أحمد شفيق كامل , كامل الشناوي ومن فينا اليوم من متذوقي ذلك الطرب الأصيل يمكن أن ينسى ( أنت عمري ) أو ( الهوى غلاب ) أو ( غلبت أصالح في روحي ) أو رائعة الغناء الرومانسي الجميل ( قارئة الفنجان ) للشاعر الكبير / نزار قباني وهي آخر ما قدمه الفنان الراحل / عبدالحليم حافظ .وعلى نفس الصعيد كانت المدرسة المصرية في الموسيقى والتلحين في أوج نشاطها وذروة إبداعها إذ كان لديها : زكريا أحمد , محمد القصبجي , رياض السنباطي، , محمد عبدالوهاب , بليغ حمدي , الموجي، , كمال الطويل , هؤلاء جاءوا ليكملوا ما أسسه ورسخه العبقري سيد درويش .. هذا الذي دفع رياض السنباطي ليقول :( سيد درويش هو الذي جدد الغناء العربي , ونحن من بعده لم نضف شيئاً ) وهذا ما أكده الموسيقار / محمد عبدالوهاب عندما قال أيضاً :( أنا درويشي حتى العظام ) .في هذه الفترة التي نتحدث عنها أتسمت الأغنية العاطفية العربية بشخصيتها المستقلة وتميزها وقدمت روائع الغناء العربي وحققت انتشاراً واسعاً في العالم العربي , وصارت الأكثر شيوعاً والأكثر جمالاً والأكثر رصانة وتمكناُ وعلماً واستطاعت أن تخلق جمهوراً واحداً للأغنية العاطفية والوطنية معاً .. جمهوراً راقياً ورصيناً أنيقاً يستطيع السمع لأن حواسه كانت سليمة غير مشوشة كما هو عليه اليوم .ذلك الجيل الذي أنتج وقدم تلك الأغنية الراقية كان جيلاً مميزاً في خلقه وسلوكه وإبداعه .. كان التعاون بين المطربين قائماً بشكل ودي وأخوي ملموس .. والتعاون بين الملحنين أوضح في صورة من التفاعل الفني فكل منهم كان حريصاً أن يكون عمل زميله في أحسن مستوى وكانت علاقة مباشرة بين المطرب والملحن والفرقة الموسيقية والشاعر أيضاً .. ولمسنا ذلك في العدد الكبير من البروفات فكنت تجد الروح الإبداعية في كل أغنية تسمعها .قدمت أم كلثوم أكثر من ثمانين قصيدة باللغة الفصحى , وهو إنجاز في فن الغناء لم يأت بمثله مطرب أو مطربة منذ العصر العباسي إلى يومنا هذا .على مدى خمسة وعشرين عاماً حمل / عبدالحليم راية العصر الذهبي للأغنية العربية الرومانسية من خلال تواصله مع الموجي منذ ( صافيني مرة ) حتى ( قارئة الفنجان ) وشهدنا مع حليم والموجي وكمال الطويل أروع وأجمل وأقوى الأناشيد الوطنية التي عبرت بصدق وجلاء عن فترة المد العربي القومي .بعد هذا نتساءل كيف هي الأغنية العربية اليوم ؟! هل تخلت عن دورها في تأجيج حماسة الشعب واستنهاض أفرادها للثورة على الاحتلال والظلم والقهر بكل صورة وألوانه ؟.نعم .. هاهي أغنيتنا العربية اليوم في جزء كبير منها تتنفس الانهيار بكل معانيه ودلالاته , وتقدم الاسفاف والبذاءة والوقاحة والانحطاط .. فجميع المطربين متشابهون .. والكلمات متشابهة والألحان إن وجدت نفسها .. طبول وخبطات سريعة ليس فيها أي من روحنا الشرقية وإحساسنا بالجمال وتذوقنا للفن.لقد تراجعت وتدهورت الأغنية العربية عموماً منذ السبعينات وإلى اليوم , وازدهرت الأغنية الراقصة والتي يسمونها الشبابية .. يقول الموسيقار والملحن المعروف / حلمي بكر : ( واضع موسيقى عشرات الأفلام والأغاني )” أصحاب الأغاني التي يطلق عليها شبابية لا علاقة لهم بالموسيقى . وما نسمعه منهم بعيد كل البعد عن الموسيقى العربية وتقنيات التلحين المتعارف عليها ) .دون أدنى شك غناء الفيديو كليب غناء كاذب خال من القيم الفنية والإبداعية وبعيد عن العلم والشعر الجميل والثقافة العامة الرفيعة ويختفي منه أي معايير فنية محددة.. انظروا إلى هذا الفن من أغاني الفيديو كليب :[c1]نفسك في إيه .. كمانناأنا نفسي ألقى نفسيواد حبيب وبيهوأجي لي ومش معالموبايل والحته الكوبيةومعايا فلوس كثيرستين تلاف جنيه .. ألخ[/c]أو تأملوا هذا المقطع من أحد أغانيهم البذيئة :[c1]أنت فين والحب فينظالمه ليه دائماً معاكأمشي أمشي يا ديكالفرخة دي مش ليك[/c]أما شعبان عبدالرحيم الذي حوّل الغناء العربي الجميل إلى مجموعة نكات سخيفة .. انظروا ماذا يقول :[c1]خلاص ما أبطل غناوأسرح ببيض وسميطعشان خلاص الغنا دلوقتي بقى تنطيطإحنا في زمان الكاسيتاللي اتحلا تركاتإش إش وإش وإش [/c]ها هو الانحطاط بكل صوره وأشكاله ومعانيه والبذاءة حاضرة متوثبة .. كلمات لا معنى لها يضاف إليها الضجيج الموسيقي الذي تصنعه الآلات الكهربائية البعيدة كل البعد عن موسيقانا الشرقية وإيقاعاتنا الجميلة وألحاننا الساحرة .. وليت الأمر يتوقف هنا .. ها هي الأجساد النسوية العارية تتلوى كالأفاعي والعياذ بالله .اليوم ها نحن وجهاً لوجه أمام هذا المسخ الشيطاني المسمى أغنية الفيديو كليب وهو بحق شبيه بنباح الكلاب وفحيح الأفاعي ولا يربطها أي رابط بماضينا الغنائي العريق وعمالقة الغناء العربي وملحنيه العظام وشعرائه المبدعين .