شهدت محافظة صعدة خلال الآونة الأخيرة ـ ولا زالت تشهد ـ تحولات إيجابية لجهة تطويق ذيول فتنة التمرد المذهبي ، وإطلاق سراح المئات من المغرر بهم وصرف مئات الملايين من الريالات كتعويضات للمتضررين.والحال ان أحداث التمرد الذي قادته جماعة دينية متشددة بقيادة المدعو حسين بدر الدين الحوثي وشركائه أحيطت بتناولات إعلامية مغرضة من قبل بعض صحف أحزاب " اللقاء المشترك " على نحوٍ لا يخلو من التضليل والانتهازية السياسية والمراهنات الخاسرة ، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان طريقة تناول الخطاب الإعلامي المعارض للأزمات والمواجهات التي شهدتها البلاد في فترات سابقة ، بين أجهزة الأمن وبعض الجماعات المتطرفة التي أرتكبت جرائم إرهابية طالت بواخر أجنبية ومنشآت حكومية وسفارات أجنبية في بلادنا، وألحقت بهذه الأعمال الإجرامية أضراراً خطيرة باقتصاد بلادنا وسمعة موانئنا. كان الخطاب الإعلامي المعارض _ ولا يزال _ يتجاهل الأهداف والمنطلقات والأبعاد الخطيرة لجرائم الإرهاب التي تستهدف تقويض أسس النظام السياسي القائم على الديمقراطية التعددية وحرية التعبير وحق تداول السلطة سلمياً عبر صناديق الاقتراع ، حيث حرص هذا الخطاب على تشويه تلك المواجهات التي كانت أجهزة الأمن تقوم من خلالها بواجبها الوطني والدستوري إزاء تلك الأخطار التي تهدد النظام السياسي والسلم الأهلي ومصالح البلاد.. وقد تمحور ذلك التشويه في محاولات إظهار تلك الجماعات الإرهابية في صورة الضحية التي تتعرض للقمع والملاحقة وانتهاك حقوق الإنسان..وبوسنا القول إنّ تناقضات الخطاب الإعلامي لأحزاب " اللقاء المشترك" كشفت الإفلاس القيمي لذلك الخطاب ، وسقوطه في مستنقع الانتهازية السياسية ، وإدمانه على البحث عن ذرائع لتشويه صورة النظام وتسويق ذرائع واهية لتبرير الإرهاب وتبرئة مرتكبيه والتقليل من مخاطره على مستقبل الديمقراطية بشكل خاص ومصالح الوطن والشعب بشكل عام.لا ريب في أنّ المنطلقات الفكرية لجرائم الإرهاب التي ارتكبتها الجماعات المتطرفة وواجهتها أجهزة الأمن والمؤسسات الثقافية والإعلامية والتربوية في بلادنا ، كانت غائبة تماماً عن الخطاب الإعلامي المعارض الذي أسرف في إخراج المواجهة مع الإرهاب من سياقها الموضوعي إلى سياق آخر يتسم بالكيدية تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان، فيما كان هذا الخطاب يتجاهل تماماً حقيقة أنّ هذه الحقوق موجودة في البُنى الدستورية والثقافية لنظامنا السياسي، مقابل غيابها المطلق عن منظومة الأفكار المتطرفة التي تغذي الإرهاب وتوجه نشاط الجماعات المتطرفة بدعاوى دينية مقلقه وزائفة.. ناهيك عن أنّ الفكر السياسي الأحادي للجماعات الإرهابية التي واجهتها الدولة في أوقات سابقة لا يعترف بالديمقراطية وحقوق الإنسان ، ويسعى إلى بناء دولة دينية استبدادية شمولية على غرار نموذج دولة "طالبان" أو دولة " ولاية الفقيه " اللتين لا مكان فيهما للحريات والتعددية السياسية والفكرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة.ومما له دلالة خطيرة أنّ هذه الجماعات لم تكن محصورة على بعض أبناء مديرية حيدان في محافظة صعدة التي أتخذ منها زعيم هذه الجماعة المتطرفة منطلقاً لتمرده المشبوه ودعوته الضالة ، بل شملت اتباعاً لها تم تجميعهم وجلبهم من مختلف المدارس الدينية المذهبية في بعض المحافظات ، حيث تقوم هذه المدارس بتعليم طلابها دروساً وأفكاراً خارج النظام التعليمي الرسمي للدولة ، وبما يتناقض مع قانون التعليم الذي تمّ بموجبه إلغاء منظومة من المدارس الدينية كانت تدرس أفكاراً ومفاهيم دينية وفق نسق فكري أحادي مغلق ودمجها بالنظام التعليمي الرسمي، بينما أستثنت الدولة لأسباب غير مفهومة عدداً كبيراً من المدارس الدينية وأبقتها حرة طليقة خارج النظام التعليمي الرسمي!!.ظلت المدارس الدينية المذهبية _ على اختلاف مسمياتها _ قائمة خارج النظام التعليمي الرسمي على الرغم من تطبيق قانون التعليم ، ولعبت بسبب وجودها غير القانوني دوراً خطيراً في إيجاد بيئة ثقافية تتغذى منها هذه الجماعة الضالة التي أتخذت من صعدة وبعض مساجدها معقلاً لإحياء فكرة " الإمامة " وإعلان التمرد على الدولة والدعوة إلى إعادة النظام الإمامي الكهنوتي الذي أنتهى ـ وإلى غير رجعة ـ بعد قيام ثورة 26 سبتمبر الخالدة.لجأت هذه الجماعة في بادئ الأمر إلى نشر أفكارها الضالة عبر توزيع الكتيبات والخطابة في المساجد وتشكيل المليشيات المسلحة ، وعدم الاعتراف بالدستور بحجة أنّه وضعي ويتعارض مع الشريعة الإسلامية التي تحصر الولاية العامة في حي واحد من قريش بحسب أحد التفسيرات المتعددة والمتناقضة للشريعة الإسلامية، الأمر الذي يؤكد خطورة المدارس الدينية على اختلاف مذاهبها، والمنتشرة في معظم أنحاء الجمهورية اليمنية خارج النظام التعليمي الرسمي، حيث يدرس الطلاب في مدارس دينية سلفية أخرى أفكاراً لا تقل خطورة عن تلك التي يتعلمها أنصار الجماعة المتمردة في صعدة .. فإذا كان هؤلاء يدرسون فكرة حصر وتوريث الحكم في حي واحد من قريش وهو آل البيت، فإنّ طلاباً آخرين يتعلمون في مدارس دينية أخرى أفكاراً تدعو إلى حصر وتوريث الحكم في قريش فقط ، بجميع بطونها وأفخاذها وأحيائها، وما يترتب على ذلك من إهدار للحقوق السياسية لبقية المسلمين ومصادرة حقوقهم كمواطنين متساويين أمام القانون في الحقوق والواجبات.ما من شكٍ في أنّ التداعيات التي أسفرت عن أحداث التمرد في مديرية حيدان بمحافظة صعدة تقدم دليلاً إضافياً على خطورة الثقافة الدينية المتطرفة التي تؤسس نسقاً مغلقاً وأحادياً للوعي والممارسة.. لكن الخطر الأكبر يكمن في المنابع التي تغذي هذه الثقافة وتمنحها أسباب الاستمرار والبقاء، حيث تتجسد هذه المنابع في المدارس الدينية ذات النسق المغلق والمذهبي بشقيها السلفيين السني الشيعي اللذين يتفقان في الأصول المنغلقة الأحادية ، بيد أنهما يختلفان في الفروع وطرائق التطبيق فقط . .. ويزيد من خطورة هذه المدارس أنّها منتشرة في عموم الجمهورية، وتعمل بحرية خارج النظام التعليمي الرسمي للدولة ، الأمر الذي يسهم في تزييف وعي التلاميذ والصبية الذين يرتادون هذه المدارس الممولة من مصادر مجهولة .وتصل هذه الأخطار إلى ذروتها حين نعرف أنّ المدارس الدينية التي لا زالت حرة بعيداً عن سلطة قانون التعليم تلقين تلاميذها مناهج وافدة من خارج اليمن ولا تلبي متطلبات السياسة التعليمية والثقافية للدولة ، كما أنّ تمويلها يأتي من الخارج تحت ستار العمل الخيري، الأمر الذي يفتح ثغرات عديدة لتسلل الأطماع الخارجية والمخططات المعادية للسيادة الوطنية والمصالح العليا للبلاد.بوسعنا القول ان أحزاب " المعارضة " أخطأت عندما توهمت بأنّ أحداث محافظة صعدة توفر لها فرصة ذهبية لتصفية حساباتها مع الحزب الحاكم وإظهار القضية وكأنها صراع بين حكومة المؤتمر الشعبي العام وجماعة مدنية معادية لأمريكا وإسرائيل.وتخطئ المعارضة أيضاً حين تعتقد بأنّ هذه المواجهات توفر لها أيضاً إمكانية إضعاف نظام الحكم عبر تشويه الحقائق وتضليل الرأي العام وتجاهل المنطلقات والأبعاد الفكرية التي تستند إليها هذه الجماعة المتمردة ، حيث يؤدي هذا الموقف الانتهازي إلى التفريط بالمبادئ الديمقراطية التي تدعي أحزاب " اللقاء المشترك " أنّها تدافع عنها ، فيما تتعرض هذه المبادئ ليس فقط لخطرعدم الاعتراف بها من قبل قوى التمرد ، بل ولخطر خيانة أحزاب " المشترك " للمبادئ التي تستمد منها شرعية وجودها في الحياة السياسية.يقيناً أنّ النظام الجمهوري المبني على أسسٍ ديمقراطية تعددية يزداد رسوخاً وتطوراً، بقدر ما يزداد قوة في مواجهة الأفكار الرجعية التي يتوهم المؤمنون بها بإمكانية إحياء فكرة "الإمامة" وحصر الحكم وتوريثه في سلالة معينة ومنغلقة تنحدر من "هذا الحي في قريش"، وصولاً إلى العودة بالبلاد إلى العهد الإمامي الكهنوتي البغيض الذي مارس أسوأ أنواع القهر والبطش والاستبداد، وعمل على عزل اليمن عن العالم وكرس تخلفها لعقود طويلة.ولسوف تلقى تلك الجماعة المتمردة وأفكارها الضالة مصيرها المحتوم لأنّها عاجزة عن الصمود أمام قوة وزخم التحولات الديمقراطية التي تحدث في بلادنا، وغير مؤهلة للتفاعل مع تعاظم اندفاع رياح التغيير التي توجه مسار تطور حضارة عصرنا.. بيد أنّ خسارة أحزاب المعارضة التي تتجاهل هذه الحقائق ستكون أكبر، لأنّها تفقد مصداقيتها أمام الرأي العام الذي يكتشف يوماً بعد يوم تجاهلها لمعاييرالديمقراطية التي تدعي الدفاع عنها، وتفريطها بالمبادئ التي تستمد منها شرعية وجودها السياسي في موقع المعارضة ، وإفلاس خطابها السياسي الذي يقول شيئاً فيما تمارس هذه الأحزاب نقيضه على الصعيد العملي. * نقلا ً عن / صحيفة (( 26 سبتمبر ))
فتنة صعدة .. وأزق البحث عن المراهنات الخاسرة
أخبار متعلقة