أضواء
هناك وصف ذو معنى ومغزى معين يرتبط بالإمارات ومجتمعها، وهذا الوصف هو “التسامح»، وهو كما هو مطروح ومروّج له في مرحلة حساسة وفاصلة ومفتوحة على الاحتمالات من مراحل حياة المجتمع الاماراتي، يعني قبول الآخر، غير الشريك في الوطن والصيغ الثقافية، الآخر الأجنبي القادم من الخارج، قبوله وقبول اختلافه عن المجتمع وممارسته هذا الاختلاف. ولا يخفى أن المعنى لا يقتصر على هذا فقط، فهو بالضرورة يشمل فكرة قبول المجتمع الإماراتي بوضعه الحالي وموقعه الثانوي، بل والهامشيالمجتمعات» الأخرى الموجودة على أرضه الخاصة. ولا شك في أن تسفيهاً ما وسخرية من المجتمع المقصود يتضمنها هذا الجانب من معنى المفهوم.معنى آخر غير مباشر يحويه طرح «التسامح»، هو افتراض قبول التناقضات والاصطدامات والصدمات الثقافية، التي تختلف بشكل صارخ مع قيم المجتمع، بل وإن أمكن نفي شعور المجتمع بأي تناقض. وفي هذا الموقف الذي يقف فيه ضد نفسه ويستهين بقيمه الى درجة المطاطية والاسترخاص، يسجل للمجتمع الإماراتي (كما يصور) ظاهرة غير معهودة في سجل المجتمعات كما يعرفها العلم الاجتماعي والانثروبولوجي.إن البعض يعزف الآن على وتر “التسامح» لغرض القول إن واقع الامارات، في كونها موقعاً لازدهار هويات مختلفة غير هويتها وأخذ هذه الهويات مساحات كبيرة في الظهور والتسيد، هو أمر طبيعي في ظل هذا “التسامح» “الحضاري» والرحب.وهناك من يذهب للقول وبمبرر “التسامح» إن المجتمع الإماراتي لا يريد هوية دولته الوطنية أن تكون هي الهوية الأولى والغالبة ويفضل عليها تعددية الهويات. تطرح هذه النظرة في صيغتها الأكاديمية والنظرية على أنها خيار مجتمعي واعٍ، وليس مهماً هنا اسم من يطرحها، وإنما المهم أنها تأويل غير أمين للواقع واستنطاق واستفتاء للإماراتيين لم يحدث أبداً، ولم يقولوا فيه إنهم يريدون غلبة هويات الغير على هوية مجتمعهم الذي هو صاحب الأرض والوطن المحتضن للآخرين.إن الواقع الاجتماعي في اختلالاته وإشكالاته، سوف يجد دوماً من ينظّر له ويضع بنى فكرية تمرر وتبرر عدم قبوليته وغرابته، هكذا يقول تاريخ العلم الاجتماعي عند شعوب أخرى، ونحن الآن من تلك المجتمعات التي توضع لها بنى فكرية وتنظيرية وبنى ثقافية تهيئ لتأويل الواقع الاجتماعي والاقتصادي وإعطائه صفة الشرعية، وأنه تطور طبيعي ومتأت من رغبة المجتمع وإرادته.ولقد قرأت خبراً يقول إن ضيوفاً أكاديميين غربيين خرجوا من مؤتمر استضافته إحدى جامعاتنا، بفكرة أن تسامحية الإمارات هي فرادتها وتميزها في منطقتها العربية، وأن هذه التسامحية هي أهم ما يستحق الدرس عنها، وهكذا يكادون يقولون إن التسامحية هي هويتنا لا غيرها، ولربما لن يكون اليوم الذي تتوج فيه هذه التسامحية، وعلى مقاصد من يطرحها، على أنها الهوية الحقيقية للإمارات غير بعيد، وبطبيعة الحال لن تكون الهوية الوطنية بعروبتها وإسلامها، وكما ندعو اليها الآن، إلا شوفينية وتخلفاً ومهدداً ونقيضاً للتسامح. هل نستبعد هذا في ظل تحولات الواقع الهائلة وما أفرزته هذه التحولات من تنحٍ وعدم حضور العامل الوطني - المواطن في الفضاء الإماراتي؟ هل نستبعد تحول هذا التسامح الى الايديولوجية الضد التي نرمى بها وبسهامها، حين نصرخ بطلب هوية هي على صورة هوية آبائنا وأجدادنا، وهوية هذا الوطن كما كان عليه سكانه حين كانوا غالبيه منذ أربعة عقود وعلى مدى وجوده، قبل أن يتجه الى وجهته الحالية حيث أهله ليسوا إحدى فئات سكانه الرئيسيين؟وبعيداً عن غرضية مفهوم التسامح واستخداماته غير البريئة، فإن مجتمع الإمارات هو حقاً مجتمع متسامح، وهو لم يتعلم هذا التسامح من العولمة أو الحداثة وإنما هو قابلية ثقافية وحضارية يمتلكها، وتعود بعض أساسات هذه القابلية الى الاقتصاد والتجارة ومصلحة الأخيرة، حيث ان انتفاعاتها سهلت استيعاب الآخرين القادمين واستضافتهم للإفادة من نشاطاتهم ومالياتهم ومواهبهم وطاقات عملهم.مجتمعنا ما قبل النفطي هو صورة مثلى لمجتمع التوازن، حيث صفة البلد وشخصيته وأخلاقه وقيمه وحساسياته محفوظة، وفي موقع السيادة في وجود التنوع. في مجتمع التوازن لم تكن الثقافة موضع مساومة وكذلك لم يكن وارداً على الاطلاق التضحية بالمجتمع في تفرده بوجوده وغلبته العددية، وفي أدائه لوظائفه، وفي إنتاجيته لنفسه وديمومته. ولهذا، فإن التسامح كان حقيقياً وكان من موقع القوة. كان التسامح اختياراً وكان عقلية عامة نتذكرها لدى الآباء والأجداد الذين كانوا يقدرون التميز لدى الآخرين، وكانوا ينطلقون في تعاملهم مع هؤلاء الغرباء المختلفين ليس من موقع الاختلاف، دينياً أو ثقافياً أو حتى إثنياً، وإنما من موقع القاسم الإنساني المشترك وموقع الثقة الثقافية والحضارية (الثقة بالذات)، وكذلك طبعاً من موقع حفظ النسبة والتناسب.مجتمع التوازن الذي عاشت في كنف تسامحه أقليات ومجموعات مهاجرة عديدة هو مرجعية لنا اليوم، وحين نقيس “تسامح» مجتمعنا الحالي بتسامحه فلن يكون هذا التسامح إلا تقويلاً لمن لم يقل، وإلا اغتراباً ورضوخاً للأمر الواقع. انه ليس تسامح الاختيار، وإنما اللا اختيار. وهو معبّر طبيعي عما وصلت إليه حالة المجتمع.[c1] *صحيفة ( الخليج ) الاماراتية[/c]