صدق من قال : ( من فاته قديمه تاه ) ولعل هذا المثل يؤكد لنا حقيقة واضحة كل الوضوح نحاول تجاهلها - بطريقة أو بأخرى -وهي الرجوع إلى تراثنا الأدبي القديم الذي يمثل شخصيتنا ويجسد هو يتنا العربية وثقافتنا الحضارية الإنسانية ، حيث نجد بعض الشعراء الجدد أو المتأدبين الصغار لا يولون أهمية كبرى لتراث السلف، ويسعون إلى قطع صلتهم بذلك التراث الذي يحمل كنوزاً مطمورة لم يتم - بعد - إعادة اكتشافها من خلال القراءة المتأنية والمتعمقة ، فمن ماضينا المزدهر نكتشف حاضرنا وبذور مستقبلنا المتجدد. فهذا سارتر ، الروائي الفرنسي الكلاسيكي، يؤكد (بأن الكاتب الذي يدير ظهره لأسلافه ولا يعيد قراءتهم، إنما هو كاتب لا يستحق عضوية النادي الأدبي ) كما أن من ( تقاليد الحياة الأدبية الإنجليزية أن يبدأ الكاتب رحلته إلى الأدب بكتاب يراجع فيه أحد أدباء التراث، أو بكتاب يعيد فيه تقييم عصر من عصور الأدب الإنجليزي ، ويستوي في هذا التقليد الكاتب والناقد والشاعر فعلى كل من هؤلاء ، لكي يثبت كفاءته، أن يبدأ الأدب بكتاب عن أديب من أدباء التراث يجلو فيه غامضاً أو ملتبساً ، ويأتي بجديد (حوله) والحقيقة أن الإنجليز (يقفون موقفاً سلبياً من الشاعر أو من المبدع الذي يبدأ حياته بقصائد نثر أو بنصوص مبهمة ، دون أن يكون بدأ تلك البداية الأدبية السوية التي أشرنا إليها ، أي بكتابة دراسة علمية عن أحد أدباء السلف). ويقال إن أبا نواس عندما أراد أن يقرض الشعر في مستهل حياته الأدبية استشار أحد شيوخ الأدب القدامى ، فقال له : اذهب واحفظ أربعين ألف بيت شعري من عيون الشعر في مختلف أغراضه، وبعد أن فعل أبو نواس ما أمر به ، عاد مرة أخرى - إلى شيخ الأدب ، وقال له أيمكنني الآن أن أكون شاعراً؟ فرد عليه شيخ الأدب : عليك أن تنسى كل ما حفظته من أشعار ، وهكذا بعد أن فعل ذلك أبو نواس عاد - ثانية - إلى شيخ الأدب ليؤكل له أنه نسي كل ما حفظه من عيون الشعر، وقال: فهل يمكنني الآن أن أنظم الشعر ، وهنا قال له شيخ الأدب : توكل الآن على بركة الله، فبإمكانك أن تقول الشعر بكل ثقة واقتدار.ولكن للأسف إن أكثر الأدباء والشعراء العرب يبدؤون رحلتهم الأدبية عادة بتلك النصوص الغامضة المبهمة - حسب رأي جهاد فاضل ، الكاتب اللبناني - التي لا يستطيع أن يفهمها ، أو أن يبحر فيها، حتى صفوة المثقفين ، في حين أنهم لو خضعوا لموجبات هذا التقليد ، ربما ترددوا في ولوج بحر الظلمات هذا ، أو لتردد جمهور المثقفين في استدعاء تهمة المجانية يلقونها في وجوههم.ويشير جهاد فاضل إلى أنه (في مطلع كل يوم تخرج إلى النور عشرات الكتب الأدبية العربية التي يصفها أصحابها ، أو أصدقاؤهم من النقاد بالإبداعية أو الطليعية أو الحداثوية ، لا لشيء إلا لأنها تحتوي على نصوص الساري فيهم كالساري في ليل مظلم ، وماهي في الواقع سوى نتاج مراهقة أدبية ، أو مخيلة سائبة غير منضبطة لم تخضع لتربية علمية أو أدبية أو فنية).ويستطرد الكاتب اللبناني ، جهاد فاضل ، قائلاً: ( ولذلك فإن القارئ يسيء الظن عادة بهم، أو بنصوصهم التي لايفهمها ولا يستطيع أن يفك لغزا واحدا منها ، ولاشك أن من شأن اقتباس هذا التقليد من الإنجليز، والعودة إلى تراث السلف، كما عاد إليه سارتر وإرسائه في حياتنا الأدبية ، ما يساعد على ضبط الوضع الفوضوي الذي تفاقهم في السنوات الأخيرة). خلاصة القول ، ما أكثر قوافل الشعراء الجدد الذين ينظمون قصائد للنشر أو قصائد الشعر الحر ( شعر التفعيلة ) في صحفنا اليومية أو مجلاتنا الشهرية، فلا تهز للقارئ شعرة من وجدان ، ولا تحس بجرس موسيقى في إيقاعات مفرداته المختارة، ويتعذر فهمه بألغازه المبهمة، كما يصعب حفظ أبيات تلك القصائد عن ظهر قلب والترنم بسهولة. وإذا بحثت عن مصادر تلك القصائد الحداثوية تجدها بها غربية في المقام الأول، ونخشى أن تأتي أجيالنا القادمة لتكتشف أن قصائد النشر أو قصائد الشعر الحديث (الحر) ماهو إلا تقليد أعمى لشعراء الغرب، وكأننا لانملك حياة أدبية راقية في تراثنا الأدبي والشعري يمكن أن يميزنا عن الآخرين، فمتى ياترى نتنبه إلى خطورة التقليد الأعمى (للآخر،،؟ ونثبت أن الشعر - كان ولايزال - ديوان العرب الذي يهز الوجدان ، وتحرك المشاعر الإنسانية بإيقاعاته الموسيقية، وصوره الشعرية البلاغية، ويتفعيلاته الخليلية ، ولا يعني ذلك أنني متحامل على شعراء الشعر الحديث المبدعين منهم ، والمتمكنين من شعر القافية أمثال نازك، والسياب، وصلاح عبدالصبور، ونزار قباني، ود. سعاد الصباح، وأ.د عبدالعزيز المقالح وأحمد عبدالمحطي حجاري ، وعلي أحمد باكثير، وغيرهم من شعراء القصيدة الحديثة.
أخبار متعلقة