تحقيق / سعد الحفاشيفوق تله عالية من تلال ذلك الجبل المنحدر باتجاه مناطق الرجم وسهولها الواسعة توقفنا نراقب تلك الغمامات والسحب الداكنة وهي تتجه منسكبة إلى أسفل لتلف تلك الشوامخ العالية من قمم ذلك الجبل (الشاحذ) بضبابها فتحتويها كأم حانية على وليدها لتشكل واحدة من أبدع الصور الجميلة التي يصعب على أي فنان تجسيدها في لوحاته .لم يكن ذلك المشهد الخلاب وحده فقط مصدر انجذابنا ومحور تأملنا في تلك اللحظات ففي الأفق البعيد كانت شوامخ ومنحدرات الجبال المنتصبة في الاتجاهات المحاذية لجبل شاحذ وما يتخللها من أغوار وسوائل مائية وهضاب وقنن وضفاف زراعية مكسوة بالخضرة تدفعنا إلى الغوص أكثر لحفظ تلك اللوحة البديعة إلى الأبد في أعماقنا .كانت الجبال وهضابها المكسوة بالخضرة وكذلك القرى العالقة في تلك الأرجاء قد اغتسلت قبل دقائق معدودة بمياه المطر الذي انهمر بغزارة على المنطقة فملأ سطحها بالمياه التي كانت ماتزال تتوزع في مختلف الاتجاهات منحدرة إلى أغوار الجبال لتصب في تلك السوائل المائية مكونة أنهاراً صغيرة وشلالات عذبة ، تبعث مشاهدتها في النفس مشاعر غريبة من الشوق والانجذاب لا يمكن تفسير معانيها , خاصة أن الشمس كانت في تلك اللحظات تعيد بسط أشعتها الدافئة لتنعكس على كل شيء ، وبالذات على وجه تلك المياه المنهمرة لترسم لوحات زاهية من ألوان الطيف ،وكأن تلك الغمامات التي كانت أمامنا منحنية على الإرجاء قد تسلمت إنذارا من الشمس بالرحيل فبدأت بالانقشاع والتراجع التدريجي كمن يطبع قبلات الوداع الأخيرة على تلك الشواهق الصخرية العالية, لنبدأ بدورنا باستكمال سيرنا نحو مقصدنا في هذه الرحلة (هجرة الشاحذية) ، وقمنا بركن السيارة التي كنا نستقلها جانباً في تلك التله وانطلقنا سيراً على الأقدام إلى هذه القرية الصغيرة بعد أن كانت سيول الأمطار قد جرفت أجزاء كثيرة من تلك الطريق الترابية ما أعاق مواصلة الرحلة بالسيارة . لم نكد نسير بضع خطوات حتى سمعنا صوت المؤذن ينادي لصلاة العصر ينطلق من مسجد هجرة الشاحذية البارز بشكله المستطيل ولونه الأبيض الناصع جوار تلك القبة الجميلة التي يرقد بداخلها جثمان الإمام العلامة المعروف الحمزة بن إبراهيم بن محمد بن سليمان لنسارع إلى المسجد لنتوضأ في برك الجامع التي تحوي مياه نقية ونؤدي صلاة العصر في جماعة مع أهالي قرية الشاحذية .مسجد الشاحذية الأثري وما يزخر به من تكوينات وأنماط معمارية وزخرفية مدهشة وخاصة تلك الزخارف البديعة التي تزين المسجد من الداخل والمحلاة بماء الذهب يصعب وصفها.. إذ يعتبر مسجد “هجرة الشاحذية” والذي يقع في الجهة الشمالية الشرقية لهجرة الشاحذية أحد أهم المعالم البارزة من الناحية التاريخية والأثرية في المنطقة , فالمسجد وما يتبعه من ملحقات خدمية أخرى يشكل أنموذجاً رائعاً لفن العمارة والبناء المعماري البديع وأحد تلك المعالم الإسلامية الأثرية المميزة في اليمن والتي تتجلى فيها روعة التخطيط المعماري وفن الزخرفة الجميل الذي ساد خلال القرنين السابع والثامن الهجري، حيث يتكون من بناء مستطيل الشكل مبني من الأحجار الصلدة المكسوة من الداخل والخارج بالقضاض والجص ، فبيت الصلاة يتكون من أربعة أروقة تتخللها عدة صفوف من الأعمدة الحجرية الأسطوانية الشكل والتي يقوم عليها سقف المسجد المصمم من الخشب المزين بأشكال زخرفيه مختلفة وكتابات قرآنية صممت بأسلوب رائع ومهارة عالية لتزيد من هيبة وجمال المسجد وروعة جماله المعماري بما يحتويه من زخارف مزينة ومحلاة بماء الذهب والبارزة في تشكيلاتها في اتجاه القبلة ومحراب الصلاة.. كما يضم المسجد إلى جانب بيت الصلاة عددا من الحجرات التي خصصت لتلقي العلم ولسكن الطلاب إضافة إلى صرح صغير للمسجد يجاوره عدد من البرك والمواجل التي تمتلئ بالمياه والمحفورة بأحجام مختلفة بنيت جدرانها بالأحجار والقضاض الذي يكسوها بشكل هندسي جميل حيث تستخدم هذه البرك لحصاد مياه الأمطار التي تنسكب إليها من عدة سواقي صغيرة مطلية بالقضاض من سطح المسجد وملحقاته لتستخدم بعد ذلك للوضوء , كما يوجد للمسجد مرافق خدمية أخرى أهمها المطاهير (حمامات الوضوء) وغيرها . [c1]قبة هجرة الشاحذية [/c]أما في الجهة الشمالية من مبنى المسجد فتقع قبة هجرة الشاحذية وملحقاتها والتي تعد من الأبنية المشهورة والمعالم البارزة من الناحيتين التاريخية والأثرية حيث تضم هذه القبة بداخلها الضريح المشهور باسم (ثومان) والذي يضم بداخله قبر الإمام الجليل العلامة الحمزة بن إبراهيم بن محمد بن سليمان , والقبة عبارة عن قاعة مربعة الشكل طول ضلعها من الداخل نحو خمسة أمتار وأبعاد مدخلها من الناحية الجنوبية متر وأربعين سم في متر , وتضم عدداً من الأضرحة بينما يغطي سقفها قبة مخروطية تتركز على رقبة ثمانية الشكل تقوم على مراحل انتقال من حنايا ركنية على هيئة أقواس مزدوجة ، أما أهم ما يلفت الانتباه في هذا المعلم التاريخي فهي تلك الزخارف الكتابية والنباتية التي تكسو باطن القبة والتي نفذت بطريقة الرسم بالألوان المائية وبأسلوب فني رائع وبديع .كما أن للقبة ملحقات أخرى تتمثل بحجرتين صغيرتين واحدة في الجهة الشمالية والأخرى في الجهة الجنوبية غطي سقفهما بألواح ودعامات خشبية عليها زخارف نباتية وأشرطة كتابية مؤرخة في سنة 718هـ قوامها أبيات شعرية وأدعية .[c1]معقل للعلم .. هجرة للعلماء[/c]“شاحذ” أو “الشاحذية” ماذا تعني هذه التسمية ؟.. كان هذا هو السؤال الأهم الذي حاولنا معرفة اجابته خلال زيارتنا للمنطقة .. في مواضع مختلفة من الكتاب الموسوعي (الأكليل) للسان اليمن ومؤرخها أبو الحسن الهمداني , وكذلك كتابه “صفة جزيرة العرب” ورد ذكر أسم “جبل شاحذ” ضمن ماذكره عن الجبال المشهورة الكور في جبال السراه والتي عدد منها الهمداني جبال كثيرة في المحويت مثل “جبل ملحان , جبل حفاش , جبل تيس , جبل ذخار , جبل نظار , وجبل شاحذ , ووصفها بأنها من الجبال المسنمة والتي توجد في رؤوسها الآثار والآبار والمساجد المحلاة بماء الذهب (وربما يقصد بذلك مسجد الشاحذية , أما المصادر الاخرى فقد ذكرت “شاحذ” بصفات وأخبار كثيرة أشارت فيها إلى أنه من جبال اليمن الغنية بمزارعها وثمارها وأنه من الجبال العالية المليئة بالآثار القديمة والسدود وصهاريج حفظ المياه النازلة من مياه الامطار , وأن تسميته بهذا الاسم قد جاءت نسبة الى شاحذ بن حديث بن عبدالله بن قادم بن زيد بن عريب بن جشم بن حاشد.. وبذلك تكون المصادر التاريخية قد دلت على أن هذا الجبل من الجبال المعدودة في اليمن التي قامت عليها حضارات قديمة من فترات مبكرة ربما تتجاوز العصر الاسلامي بعدة قرون .أما قرية هجرة شاحذ أو “هجرة الشاحذية” كما أصبحت تسميتها اليوم باللهجة الدارجة فتعتبر واحدة من القرى المشيدة في هذا الجبل والذي يكون تقريباً وحدة إدارية متكاملة هي عزلة الشاحذية أحدى العزل المكونة لمديرية الرجم (17 كيلو مترات شرق مدينة المحويت ). وقد نتجت تسميتها بالهجرة بفعل أهميتها التاريخية وما تكتنزه من معالم وآثار هامه ومساجد قديمة جعلتها مقصداً للعلم والعلماء شأنها شأن تلك القرى الكثيرة التي أطلق عليها مصطلح “ هجرة” نتيجة لإتخاذها مركزاًَ من مراكز العلم الديني ومعقل للعلماء في القرون الماضية منذ بداية العصر الاسلامي مروراً بالقرون الوسطى.. وتذكر مصادر مختلفة أن “هجرة الشاحذية” كان قد أستوطنها العديد من مشاهير العلماء والأعلام ممن عرفوا باجتهاداتهم العظيمة في الكثير من مجالات العلم والشريعة , ولذلك فقد سميت بهجرة الشاحذية للدلالة على أهميتها كمعقل من معاقل العلم والعلماء في اليمن والذين عرف منهم العلامة الحمزة بن إبراهيم من خلال ضريحه المعروف بقبة (ثومان) في هجرة الشاحذية.[c1]متحف للآثار في قرية !! [/c]وقرية هجرة الشاحذية عموماً تقع في مرتفع جبلي منبسط من جبل شاحذ على بعد اربعة كيلو متر جنوب مركز مديرية الرجم , وتعد هذه القرية بموقعها المطل على تلك الارجاء والمناطق الجبلية الواسعة معلماً سياحياً مهماً في محافظة المحويت لانها تطل من كل الاتجاهات على أراضي زراعية واسعة وجبال متعددة تتوزع عليها المدرجات الزراعية الخصبة المكسوة بالخضرة والمطلة على سواقٍ مائية تنمو على اطرافها الاشجار والحشائش الخضراء اللزجة التي تجعلها تحتفظ بثروة كبيرة من مختلف أنواع الطيور النادرة ، إضافة الى أنواع كثيرة من الاشجار المعمرة والنادرة التي تزيد من جمال المنطقة وتغطيها بالخضرة على مدار العام.. أما قرية الشاحذية بما تحتويه من المباني والعمارات السكينة والآبار والمدافن “ أماكن حفظ الغلال” فتشكل مع المسجد وقبة (ثومان) متحفاً صغيراً للآثار , ففي هذه القرية شيدت العديد من الأبنية والمساكن الجميلة بأنماط معمارية ملفتة وجذابة تفوح منها رائحة التاريخ القديم للقرون الوسطى , إذ تعتبر هذه القرية أنموذجاً بسيطاً لقرى تلك الفترة بإحتوائها على الآبار والسدود وحواجز المياه والصهاريج وغيرها من متطلبات الحياة التي كان يعتمد عليها الإنسان اليمني في هذه المنطقة قديما.