أديب قاسمليست المهمة المتعلقة بكتابة السيناريو ( نص قصة معدّة للإخراج السينمائي وتَشتمل على وصف للشخوص وعلى الحوار وتفاصيل خاصة بالمَشاهِد ) بالمهمة السهلة ! ولا يمكن تحقيقها إلا بحِرَفيَّة عالية ناجمة عن الإحاطة بكل أبعادها وعناصرها الفنية ذلك أن السيناريو scenario أو script ليس مجرد القصة (الحكاية) أو الحوار , لكنه علاوة على ذلك يقوم على عنصر رئيسي وهو : الصورة ! .. حتى قِيل أن كاتب السيناريو (( يفكر في صُوَر)) مادام يهدف إلى أن يقدم لنا عرضاً على الشاشة screen أي فيلماً سينمائياً للعرض أمام جمهور , مدَّته تزيد أو لا تزيد على الساعة والنصف !.هكذا يصور لنا الكاتبان البريطانيان ستانلي ريد Stanley Reed وجون هانتلي John Huntley في مؤلفهما الموسوم (( كيف تصنع الأفلام )) (( How Flims Are Mode)) :(( The writer of a film however dose not rely on words : to him pictures are more important than words , because in a film what people do is generally more important than what they say . there fore the scriptwriter «thinks in pictures» and as he writer he has imagine the film as it will final appear on the screen)(1) والمعنى :ــ(( كاتب الفيلم كيفما يكُن , لا يعوَّل على الكلمات .. فالصور بالنسبة له هي الأكثر أهمية من الكلمات , ذلك أن ما(يفعله) الناس في الفيلم , عادةً , يعد بالنسبة له أكثر أهمية مما (يقولون ) . لذلك فإن كاتب السيناريو (( يفكر في صور )) ... وينبغي له عندما يكتب أن يتصور الفيلم كما سيظهر في النهاية على الشاشة )) فإلى أي مدى يكون الأديب الروائي والقاص (( ياسر عبد الباقي )) قد وفّق في كتابه نص سيناريو جيد , ذلك النص الصادر في هيئة كتاب عن مركز عبادي 2009م تحت عنوان سيناريو فسلم روائي :( وحيدة ) ؟ بدءاَ , نود أن نضع هنا صورة دقيقة تبين لنا أن صناعة السينما ليست عملاً فردياً , وأن كاتب السيناريو هو جزء من هذه العملية التي يقودها فريق من صناع الإنتاج السينمائي (( المنتج , كاتب السيناريو , المخرج , فالممثلون)) هذا في أقل تقدير ... والسيناريو إما أن يكون جيداً فيحوز رضى المنتج أو قد يواجه بالرفض من جانبه أو بطلب التعديل alteration ... ومن هنا فإن كل نص قبل أن نصل إلى طباعته ونشره في هيئة كتاب إنما يخضع لهذه العملية المتكاملة حتى يتم إنتاجه للعرض السينمائي .ولكن لنتجاوز عن طبيعة التكامل المهني , ولنتوقف أمام هذا العمل الأدبي الفني كنص روائي على الورق أعدَّ للسينما ... وكي نعود إلى طبيعة سؤالنا : إلى أي مدى وفَّق كاتب هذا النص في عمله ؟ فالكاتب كان قد شرع في بناء هذا الموضوع من حيث أبرز مكوناته كنص سيناريو بالطريقة المثلى التي يسلكها كتاب السيناريو , وذلك عند تحليله للقصة أو تفكيكها بأسلوب التقطيع السينمائي إلى عدد من المشاهد يتناولها على مستويين : المستوى السردي أو الوصفي , والمستوى اللغوي الحواري ... حيث يشرح لنا ما الذي حدث عند كل مشهد , ويكتب الكلمات أو الحوار الذي يتداوله الشخوص ــ وذلك عن طريق تقسيم الصفحة على وجهين .... وهذا العنصر الأخير ( أي الحوار) يعد من أهم واجبات كاتب السيناريو ناهيك عن أن يكون أو لا يكون هو كاتب القصة أي الحكاية التي يقوم عليها الفيلم وقد تحولت على يد كاتب السيناريو من كلمات إلى صور بكل ما اشتملت عليه من مشاهد وأفعال , ومن حوار ومن تصوير حالات الشعور وتحويلها إلى مشاهد حركة action scene .... وهذا مايجمله لنا بالتحديد ستانلي ريد وجون هانتلي : (( An ordinary writer may spend days over a single paragraph or a line of a poem , searching for the exact words.But the flim writer need not bother overmuch with « style» except when he is writing dialogue ,he needs only describe the action , and give a general idea of the scene )) (2 أي (( إن الكاتب العادي قد يصرفُ أياماً من أجل صياغة فقرةٍ واحدةٍ أو سطرٍ من قصيدة للعثور على الكلمات المنضبطة. غير أن كاتب الفيلم لا يحتاج لأن يقلق أكثر مما ينبغي بشأن “الأسلوب” إلا عندما يكتب الحوار , مايحتاجه فحسب هو أن يصف الحركة , وتقديم فكرة شاملة للمشهد)) . كان هذا النسق في (( وحيدة)) ’ دون شك , قد أدى إلى نتيجة مؤداها أن كاتب القصة هو نفسه كاتب الحوار مثلما هو مؤلف السيناريو الذي يقوم على المشاهد , وهو ما نجده على غلاف الكتاب تحت العنوان . والذي يهُّمنَا هو التأكيد على أن مجرى تلك العملية قد ضمن لنا نصّاً حقق وافراً من النجاح اعتماداً على فكرة الفيلم البسيطة أوهي القصة (( رجل يكرهُ أن تنجب له زوجته إناثاً وعينه على ولد..!)) وقد أدت هذه الظاهرة في اليمن ناهيك عند غالبية العرب إلى مآسٍ ومشكلات كثيرة مما تلقاه كثير من الأُسَر ... وبالأحرى كان يتشكل منها شرخ في العلاقات الزوجية جعل يعكس نفسه على كافة المسارات داخل وحدة الأسرة حتى المجتمع الكبير الذي يتربص فيه الذكور بالإناث مما قد يقتضي رقابةً شديدة على البنت كي لا تلحق العار بأهلها .... وهو , علاوة على حاجة المجتمع الزراعي إلى الرجال كأيدِ تعمل في الحقل , يُعد بيت القصيد في تلك الكراهية من إنجاب الإناث في الوسط المحافظ داخل المجتمع العربي ! في البداية وبطريقة بصرية يعرفك الكاتب بالشخصية الرئيسية :ــ( رجل ضخم الجثة في منتصف الثلاثينات ينفخ الهواء من فمه ويلم أصابع يده اليمنى ويجعلها كمقبضه ويضمها في كف يده اليُسرى)ثم تبدأ المقدمة الدرامية :ــ ( القابلة أو الولاَّدة تبشره بولادة طفل (( وَلدْ)) من زوجته غير أنه سرعان ما يكتشف من مساعدة القابلة أنها (( بنت)) وفي غاية الجمال ! ... يشد عبدالله من قبضته يده ويركل الباب ويدخل) هنا يكون قد قدَّم لنا الوضع الدرامي أو ما يطلق عليه وحدة الفعل الدرامي ... ثم يمضي بعد أن مهد لقصته وشخوصه إلى نسيج من المهارة والدقة في الدفع بالقصة إلى الأمام في حركته البصرية وانتقالاته وطاقته التعبيرية المحبوكة بصورة جيدة .على أنني أُعول كثيراً , هنا على مدى توفر درجات النجاح فيما اجترحه الأديب , القاص ياسر عبد الباقي في هذه التقنية أكثر مما قد أُعنَى بـ(( حكاية)) الفيلم .... فأجد أولا أن حظ الصورة كان كبيراً ... وهذا شيء جيد , ولستُ أقول أنه مثال للسيناريو الكامل ! .... وعلى قلة حوادث القرية ... حوصرت تلك الصورة في القليل من الحركة action أو motion فبقي المشهد يدور في نفس المكان ! ... ومع تغيير طفيف مما كان يعتور هذا المشهد المؤلف من أجزاء أو مشاهد صغيرة ... حتى أننا فيما لو اجتزأنا على الحوار والتعليمات المسرحية فيما تفعله الشخصية ضمن المشهد لم يزد ذلك عن مشهد مسرحي ! (في الدخول والخروج) ... ولايضيف إليه تحوَّل الزمن شيئا ( نهار / ليل ــ أو داخلي / خارجي)... ولا يكسر من حِدته إلا الفلاش باك ( أو الاسترجاع ) الذي استعمله الكاتب بصورة جيَّدة في حادثة إحراق الأسرة. وكان حرياً باستخدام مثل هذه المصطلحات العامة التي تُضفي على الفعل نظرةَ سينمائية بدقة أكثر مهنية من دون اللجوء إلى تعليمات الكاميرا (( فلاش باك Flashback)) أو ( استرجاع) ما يعني قطع التسلسل التاريخي بإيراد أحداث أو مشاهد وقعت في زمن سابق ــ كذلك ((اختفاء)) وتعني اختفاء الصورة التدريجي ... و(( تبهيت dissolve to)) وقد يسمى(( مزج)) وهو ما يعني تداخل صورتين مع بعضهما , تختفي إحداهما تدريجيا fade out لتحَلَّ محلَّها صورة أخرى fade in .... إلى جانب المصطلحات الأخرى التي يرتهن إليها كُتَّاب السيناريو الحديث ولاسيما في نص سيناريو الكاميرا المسمَّى shooting script مثل (( زوم وهو انقضاض الكاميراــ لقطة قريبة ــ لقطة عامة ــ صوت من خارج الكادر .... الخ )) غير أنه كان قد اكتفى بالإشارة في نهاية كل مشهد بكلمة (( قطع)) أي قطع إلى cut to .... ولكن لا يمكن مؤاخذته على افتقاره لهذا التطور باعتباره نصاً أدبياً قبل أن يتحول إلى يد المخرج.على أن الأحداث البطيئة النمو في القرية (عادةً) هي التي تفرض هذه الرتابة في الحركة السينمائية بما يحد من انهمار أو من تدفق الصور ومن عنصر المفاجأة أو الانقلاب الدرامي ! .... غير أن الصراع النفسي الذي يتشكل في الحوار الداخلي للشخصيات في لحظات الصمت كان بإمكانه إن يملأ فراغ الصورة( مادامت السينما تعتمد النص البصري ) وحيث تنتفي أو يصعب كثيراً تجسيد تلك الحالات الصامتة في الفضاء السردي ونقلها من هاجسها الروائي إلا باستحداث ما يؤدي إلى الإبانة عن طبيعتها بالصورة أو بالنطق للتعبير عن مضمونها عند الإعداد لشريط سينمائي , وهو ما يضيف مسحةً من الشد الدرامي .وعندما أُتيح لي تحقيق مقاربة بين ما نجده في (( النَّمر)) قصة وسيناريو وحوار عبد الحميد جودة السحَّار , وقد صدر في هيئة كتاب عن دار مصر للطباعة ... وبين نص (( وحيدة )) الذي بين يديّ علي أن أجد ثغرة أنفذُ منها إلى بعض جوانب النقد , ما كنت لأجد شيئاَ مميزاَ ... عدا أن قصة ياسر عبد الباقي اتسمت بالبساطة الشديدة في حكاية استمدها من الواقع دون أن يقدم لنا التاريخ أو ريبورتاجاً صحفياً بالوقائع اليومية الجافة أو المشّرَّبة بواقعية حادَّة مدعماً بالصور , بل ظهر النص كعمل فّني درامي مُتقن اعتماداً على خلفيته القصصية وطاقته التعبيرية الجيدة ــ مضيفا إليها الحركة البصرية ... وكان من هذه الناحية فحسب ألصق ما يكون بنص سيناريو (( النمر)) ! .... وما يجعل منه عملاً متكاملاً هو التدقيق الذي حققه الكاتب في كل المستويات: القصة, رسم الشخصية, البصريات... والبناء من حيث الحركة وتدفق القصة ضمن نسيج (( التتابع)) ما يعني بدقة: سلسلة من المشاهد تربطها فكرة واحدة لها بداية ووسط ونهاية. ومن هنا كان ياسر عبدالباقي في (( وحيدة )) قد قدم لنا تشكلاً جديداً أو مغايراً لرؤيا إبداعية تمثلت في : وحدةٍ دراميةٍ متماسكة للقصة التي تروى بالصور ... ما يُعد شكلاً للسيناريو الجيد ... ويخرج القارئ أو المشاهد من ( القصة ــ الفيلم ) وعينه على الطابق السَّفلي للدار ـ البدروم , كما لو كان يشاهد قبراً معلقاً بين السماء والأرض ! .. وقل في ضمير الأرض .. وبداخل القبر كائن حي يؤلّب السَّخط ضدَّ نمط هذا التعاطي مع الحياة ... ويعتصر القلب ! [c1]-------------------الهوامش والمراجع (*) (1) (2) HOW FILMS ARE MADE - BY STANLEY REED and JOHN HUNTLEY , published in 1955 by Educational Supply Association , Ltd,London . Pages (24-25) and (27)(*) (السيناريو) تأليف سِد فيلد ــ دار المأمون للترجمة والنشر , ترجمة سامي محمد[/c]