الشاعر أديب كمال الدين مع الكاتبة الاسترالية المعروفة
حوار/ ياسر عبدالباقي:هل النون معنى أو لا معنى؟ذهب أم تراب؟عري أم تستر؟زندقة أم توحيد؟زنبقة أم أفعى؟عرش أم منفى؟للشاعر العراقي المعروف أديب كمال الدين بهجة وحب وصداقة مع الحروف لعله أكثر الأدباء قرباً منها.ولأننا نعشق الحروف ونعشق حروف الأديب .. أجرينا معه هذا الحوار.* لماذا الشعراء أكثر الأدباء وأكثرهم إبداعاً ونشراً؟ - إذا كان المقصود بسؤالك الشعراء العرب، فالجواب سهل: الشعر هو المهيمن الأساس على المنتج الأدبي العربي والشعراء، على هذا هم المتسيدون للمشهد الإبداعي برمته. ولابد أن يكونوا أكثر الأدباء هجرة وإبداعاً ونشراً وحضوراً .. الخ ذلك أن الرواية، وقبلها القصة والمسرحية، هي أنواع كتابية عرفها العرب في العقود الأخيرة ولا تملك - كما هو معروف - ذلك الحضور الأخاذ والخطير والمهيمن الذي أمتلكه الشعر عربياً منذ آلاف السنين.أما إذا كان المقصود بالشعراء هنا : الشعراء بصفة الإطلاق، أي شعراء العالم، فسيكون الجواب مختلفاً بالتأكيد.فالرواية كتبت في الغرب وفي العديد من أصقاع العالم منذ زمن طويل - وكذا الحال مع المسرحية والقصة القصيرة - وأعداد الروائيين وكتاب الفن القصصي والمسرحي على هذا لايستهان بها. ولذا فهجرتهم قد حدثت بوضوح تاريخي وجغرافي وإبداعهم محلياً وعالمياً بارز، وسيطرتهم على ما ينشر ويباع في سوق الكتاب غالبة. هذا لا يعني أن شعراء العالم لم يهاجروا بالطبع. فلقد هاجروا وأبدعوا جنباً إلى جنب أقرانهم الروائيين والقصاصين وكتاب المسرح. لكن ميزة الهيمنة في الحضور لم تكن مقتصرة عليهم كما هو الحال مع الشعراء العرب.* تقييم في أستراليا منذ سنوات هل تجربتك الشعرية اختلفت بعد الإقامة فيها؟- بألتاكيد. فلقد أختلف علي المكان فأختلف علي الزمان! وأختلف الهواء والماء مثلما اختلفت اللغة والقوانين والعادات والتقاليد. واختلفت وسائل العيش والطعام والشراب والنقل والاتصال بل أختلف معنى الموت والحب والجنس والعمل. واختلفت - قبل ذلك وبعده * المنجز الإبداعي وطرق عرضه وقبوله وتلقيه. كل هذا حصل وحضر وتحقق فكيف لا تختلف التجربة الشعرية التي هي انعكاس وتفاعل وتمازج ما بين المحيطين الخارجي (الجغرافي والاجتماعي واللغوي) والمحيط الداخلي (الروحي)؟- نعم، اختلفت التجربة واغتنت بالجديد والغريب الذي واجهته وتواجهه كل يوم على مختلف الأصعدة.وصار علي لزاماً أن أتكيف على نحو ما مع ما تقدمه الحضارة الغربية من معطيات إبداعية وتكنولوجية واتصالية وثقافية ضمن قوانين مادية صارمة.هذا التكيف ليس سهلاً أبداً بل هو نوع خطير من التحدي المستور والمبطن ولمؤلم أحياناً كثيرة، خاصة وأنني أنتمي وبقوة إلى القيم الشرقية العربية والإسلامية والصوفية والحروفية!ففي داخلي لم تزل الأسئلة الروحية الصوفية حية بل شديدة الحياة. مثلما بقيت أسئلة الموت والحياة هي الأخرى شديدة النبض وعنيفة اللون. وكل هذا يتم في أرض لا تهتم إلا بالجسد، ولا تقيم وزناً إلا للذة، ولا تعبد إلها سوى الدولار!* حسناً وكيف كانت مشاركتك في الحياة الأدبية في أستراليا؟- رغم الصعوبات والتحديات تلك، فلقد شاركت في أكثر من قراءة شعرية في المدن الأسترالية وتم تضييفي في جمعية الشعر في مدينة أديلايد عاصمة ولاية أستراليا الجنوبية عام 2004 وغاليري (De la Catessen) عام 2006 ونشرت قصائدي - ولم أزل مستمراً - في أكثر من مجلة أسترالية مهمة، مثلما اختيرت قصيدتي “أرق” Sleeplessness كواحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 ونشرت في أنطولوجيا خاصة أعدها الشاعر الأسترالي والروائي المعروف بيتر روز Peter Rose.لقد أحب أدباء أستراليا شعري ربما لأنهم وجدوا فيه حساً تراجيدياً يفتقدوه، ووجدوا فيه خلاصة إنسانية مرت بحريق أثر حريق حتى صفا جوهرها ولمع بريقها الماسي المأساوي.هذا بالنسبة للمشاركة الإنكليزية، أما العربية فقد نشرت مجموعتين شعريتين هما: (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) و (شجرة الحروف) صدرتا عن دار أزمنة. وقد لاقت المجموعتان صدى نقدياً طيباً - ولله الحمد - من نقاد وكتاب وشعراء من العراق ولبنان ومصر وتونس والمغرب واليمن والسعودية وفلسطين. فشكراً من الأعماق لكل من كتب ويكتب. أذكر منهم د. عبد إلاله الصائغ عيسى حسن اليايسري، د. حاتم الصكر، زهير الجبوري، جمال حافظ واعي، محمد العشري، عبدالرزاق الربيعي، علي الإمارة، صلاح زنكنة، رياض عبدالواحد فاروق سلوم، وجدان عبدالعزيز، عادل الشرقي، كريم الثوري، عبداللطيف الحرز، د. مصطفى الكيلاني، صباح الأنباري، مالكة عسال، د. خليل إبراهيم المشايخي، وديع شامخ، نور الحق إبراهيم، فرات إسبر، عبدالغني فوزي، صالح محمود، سوف عبيد، حسب الله يحيى، علي حسين عبيد، نصر جميل شعث، عدنان حسين أحمد، شوقي مسلماني، ود. عدنان الظاهر. وقد كلل هذا المنجز النقدي الناقد د. مقداد رحيم بكتابة (الحروفي) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر والذي اختار فيه ما أبدعه 33 ناقداً تناولوا تجربتي الشعرية بالدرس والتحليل عبر مجاميعي ( ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة)، (حاء)، (النقطة)، (أخبار المعنى)، (نون)، (جيم).* ما قصتك مع الحروف، تحمل عناوين لكتبك وقصائدك. أقرأ لك جملة تقول فيها: اتخذت الحرف وسيلة شعرية وملاذاً إبداعياً؟- كان الحرف ولم يزل سبباً في خصوصيتي الأسلوبية الشعرية. بيد أن الوصول إليه لم يكن سهلا البتة. لكنني عشقته فسهل العشق علي الوصول ثم القبول ثم المثول في حضرته حد الهيام والتماهي. وربما، وبخاصة، وقت.الحريق الشعري أعني وقت كتابة القصيدة، يصل الأمر إلى درجة نسيان السبب والمسبب في رحلة الحياة.ثم تعرفت إلى أسراره فكانت (النون) بهجة المحب وحليب العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك والحرمان والارتباك والدوران والقمع والإحاطة والسيطرة. كانت النون رمزاً لمحبة كل شيء قريب وفي متناول اليد كما القمر في متناول المجنون وهو يرى صورته منعكسة فوق سطح الماء! وقبله كانت (الجيم) إشارة الجنون والجثة والجحيم والجند والحرب والدم. لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السر الأعظم وفيها الطلسم الذي لا يفك رموزه أحد وإن إعادة الجميع لقداسته وعمقه ولطفه الذي لا يعرفه سوى خواص الخواص. وستكون (الحاء) حاء الحب والحرية والحنان دون شك، لكنها حاء الحرب والحريق قبل ذلك وبعده. وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له.وقد صدرت لي أخيراً (شجرة الحروف) فكان الثمر غريباً والرحلة التي قطعها الغريب أكثر غرابة. وكدت أسميها “شجرة اليأس” لولا إخلاصي الذي لا حدود له للحرف، ولولا محبتي التي لا يساورها الشك لشجرة الأمل وإن بدت صغيرة جداً وشاحبة جداً لشدة العاصفة التي تحيط بها وبي. وكان أن أوثق لما جرى لي بلغة الاعتراف الجميل الذي سيراه بعضهم لذيذاً والآخر مليئاً بالغموض والثالث عذباً والرابع ... أو بلغة الفاصلة الجسدية والزمكانية التي تغني القصيدة وتزيد، ربما، من سعة آفاقها لتحتوي الحياة كلها في لحظة نادرة.الرحلة لا تنتهي بالموت ذلك عجب الدنيا العجاب، لأن الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي هذا بعض العزاء لي بأن سكني في لحاء الحرف قد أنار لي ظلمة وداعي وأعانني على الوصول إلى شيء ما وإن كان سر هذا الشيء مجهولاً للطفه العميق.لقد عالجت كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف وداويتها به. شافياً للوهلة الأولى لكن الظلام كان مزمناً فصار علي - أنا المنسي المنفي في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده - أن أعيد العلاج المرة تلو الأخرى. ولذا أبدلت الحرف من (الجيم) إلى (النون) إلى (الحاء) إلى (النقطة) إلى (ما بعد الحرف ... ما بعد النقطة) وإلى (شجرة الحروف) أخيراً، ثم حاورت النقطة والحرف وجعلتهما يتحاوران في كل شيء ويتناغيان ويتساءلان ويكتشفان بعضهما بعضاً وينصهران إلى حد التلاشي والذوبان، ثم جعلت النقطة تعترف وترقص وتبكي وتغني وتعشق وتهيم وتجن وتشطح وتشرق أبداً في البر والبحر والنهر.ما أعانني في ذلك أنني لم أكن مفتعلاً ولا مفتعلاً. فكان حرفي صادقاً لسانه رطباً أبداً بالدعاء والغناء والهذيان، وكانت النقطة طيبة كدمعة طفل يتيم. لذا لا عجب أن رأيت البحر والطفل والساحر يهبطون من الحرف ليأخذوا بيدي أنا المتأمل المهموس بالجسد والنار والموت لأسير خطواتي المرتبكة وسط القساة والأجلاف والقتلة، ولأتجنب، ولو لبعض الوقت، ذكر حيرتي الكبرى وضياعي المكتوب.وبلغة التصوف فسترى النقطة هي الكينونة ومركز الكون والعالم الأكبر، وقد بدت مجسدة مجموعتي (النقطة) ويمكنك اعتماد قصيدة (محاولة في أنا النقطة) مثالاً واضحاً:أنا النقطة أنا بريق سيف الأصلع البطينأنا خرافة الثورات وثورات الخرافةأنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوىأنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرضأنا بقية من لا بقية له أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثمأنا ألف جريحونون فتحت لبها لمن هب ودب.هذه هي النقطة كرمز صوفي لكنني انطلقت إلى استخدامات أخرى عديدة للنقطة ولم أكتف بهذا الترميز فقط، فبدت في القصائد الأخرى لمجموعة (النقطة) مركزاً للقلب ومركزاً للروح ومركزاً للجسد ومركزاً للرؤيا.هكذا تعاملت مع النقطة أما مع الحرف فقد كتبت قصيدتي ضمن مستوياته.* أية مستويات تقصد؟- أعتقد أن للحرف مستويات هي: الدلالي، الترميز، التشكيلي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلمسي، القناعي، الإيقاعي، الطفولي.وهكذا يا صديقي العزيز، يبدو لي الحرف هو التعويذة التي لا ترتبك وهي تواجه جنون عالمنا المعاصر، بل هي تتماسك. وهي لا تمحي بل تمحو، حاملة إرث ما هو عربي وإسلامي، عميق وعظيم، قديم ومعاصر في الوقت ذاته. الحرف حرب ضد الرداءة، فيه أغوص لأصطاد ثروة المعاني وأشتري ثياب المعرفة وأتعمم بنور العلم. فيه أستردد طفولتي المحطمة وشبابي والقاسي وكهولتي الأقسى. الحرف كما أرى، شبكة لصيد البهجة، والحلم، والشمس، والفجر، والألم العظيم.الحرف سر عظيم لا يعرفه حق المعرفة إلا القلة، وكلما ازدادوا معرفة بالعلم، وكلما ازدادوا معرفة بالعالم ازدادوا جهلاً بأنفسهم وبالشعر، وبالحرف حتى!* هل فكرت في كتابة الرواية؟- كتابة الرواية ما هي الانوع من الحلم المستحيل بالنسبة لي في الوقت الحاضر على الأقل. فبعد أن أنفقت أكثر من ثلاثين عاماً في كتابة الشعر ونشرت خلالها تسع مجاميع شعرية بقي هذا الحلم المستحيل يراودني من حين إلى آخر.* لماذا؟- لأن كتابة الرواية تبدو أقرب إلى روح الكتابة بمعناها العميق: خلق الشخصيات ورسم ملامحها وتسيير حياتها وتنظيم صراعاتها وتحديد نهايتها وبث ما يريد الكاتب من خلال الشخصيات وصراعها وما يريد أن يبثه كرسالة إلى العالم إن كان يؤمن أن هناك رسالة ما يجب إعلانها. فإن لم يؤمن بهذا من خلال حياة الشخصيات وكشف دواخلها أن يعري الإنسان وخرافاته المستترة وأحلامه المغيبة ورغباته المجنونة واحتجاجه العبثي. وكل ذلك يتم من خلال التفاصيل الحية والدقيقة والتي توثق لحياتنا المنكوبة بالحروب والحصارات والمنافي!