صقر أبو حسنتعرض الشعب الفلسطيني على مدى سنوات نكبته منذ العام 1948، وحتى حصار غزة الحالي، وما يمكن أن يليه، وما يدبر لهذا الشعب في الخفاء والعلن، إلى شتى أشكال الحرب المادية والنفسية، التدميرية والتصفوية، التهجيرية والإستيطانية، وغيرها الكثير الكثير. وها هو يتعرض إلى حرب من نوع آخر. إنها حرب غياب الضمير العالمي على ما يعانيه ويكابده من مآس وآلام. إنها حرب صمت الأمم المتحدة، صمت المجتمع الدولي، ولكنها قبل هذا وذاك حرب الصمت العربي. محور حديثي هو ما أطلق عليه « حرب غياب الضمير العالمي « الذي شلّ إحساس العالم، أو ما تبقى منه، وخدر لسانه. العالم بعامة، والعالم العربي بخاصة. إلا أن هذين العالمين لم يفقدا نعمة السمع والبصر، وإن فقدا نعمة التبصر. فهما يريان ويسمعان جيدا ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومثالا لا حصرا هذا الحصار الخانق لقطاع غزة، والذي يستهدف كل مرافق الحياة الإنسانية فيه. إنهما لا يفوتهما مشهد واحد من مشاهد المأسـاة الفلسطينية الكارثية.العالم بعامة، والعالم العربي بخاصة، لا يحتاجان لمن يذكرهما بما يتوجب عليهما إزاء الفلسطينيين. إلا أنهما غرقا حتى آذانهما في النفاق والانجرار وراء طروحات ورؤى سياسية أميركية وإسرائيلية معادية، صنفت كل ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي من استخدام مفرط للقوة، وبطش وقمع، ونزع لأبسط الحقوق الإنسانية الفلسطينية. في جحيم هذه الحرب الشرسة المدمرة المستدامة، لطالما ناشد الفلسطينيون الشرعية الدولية ممثلة بمنظمة الأمم المتحدة، والإتحاد الأوروبي، والمجتمع الدولي، والرباعية، والضمير العالمي، والعالم العربي يفترض بلا أدنى شك أنه المنادي الأول والمناشد والمشكو له قبل غيره.إلا أن الفلسطينيين وفي نهاية المطاف اقتنعوا في قرارة أنفسهم، وإن لم ييأسوا، أن لا أحد ممن أسلفنا ذكره يجرؤ أن يقف معهم، أو أن يواسيهم في محنتهم الكارثية التي تحصد أرواح أبنائهم دون رحمة، وتهدم ما لهم من مقدرات وبنى تحتية، وتغتصب الأرض شبرا فشبرا، وتحاصرهم، وتسعى جاهدة للإجهاز على ثوابت قضيتهم، وتدمير روحهم المعنوية. لقد بات الفلسطينيون على يقين تام أن هذه الهجمة الشرسة التي يتعرضون لها تحت ظلال غياب الضمير العالمي والعربي غير مسبوقة. وحقيقة الأمر إن الهدف الحقيقي لهذه الاجتياحات التدميرية والحصارات والإغلاقات المستدامة على الفلسطينيين يتمثل في الإنقضاض على ثوابت القضية الفلسطينية، في غمرة ما يتوهم الاحتلال، بأن الفلسطينيين تحت ظلال جحيم هذه الظروف القاهرة، سوف يتسرب العطب والتلف إلى جهاز مناعتهم المعنوية، وأنهم جراء ذلك سوف يرفعون الراية البيضاء، ويقبلون بأية حلول تصفوية تفرض عليهم بالإكراه. إنها حرب تجند فيها كل أساليب القمع والقهر، ما دام هناك غياب واضح للضميرين العالمي والعربي، أو بصحيح العبارة غير مكترثين ولا مباليان، وصامتان لا يبديان حراكا. والصامتون هم كثر في هذا الصدد. إلا أن أولهم منظمة الأمم المتحدة. إن المواطن الفلسطيني لا يستغرب ولا يندهش من صمتها، وعدم تفعيلها لكل القرارات الشرعية التي صدرت عنها ذات يوم لصالح قضيتهم. إن الفلسطينيين على يقين أن ضمير هذه المنظمة قد غيبته رؤى الهيمنة الأميركية.وأما العنصر الثاني في حرب غياب الضمير العالمي والعربي على الفلسطينيين فهو الإتحاد الأوروبي. وبداية فلا أحد ينكر ما قدمه الإتحاد للفلسطينيين. إلا أن الأنكى من ذلك كله أنه التزم جانب الانحياز إلى الاحتلال، وآثر الصمت فيما يخص المآسي الكارثية اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون جراء هذه الاجتياحات الدامية والمدمرة، وجراء هذه الحواجز والإغلاقات، وأخيرا وليس آخرا جراء هذا الحصار المدمر المفروض على قطاع غزة.إن الفلسطينيين على يقين أن الإتحاد الأوروبي واقع تحت تأثير الضغوطات الأميركية الإسرائيلية، وأنه في هذا الصدد رهن نفسه للسياسات المتطرفة الظالمة والمعادية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية ضد الفلسطينيين. والفلسطينيون على يقين أيضا أن هناك مساحة ضمير حر في أوروبا، إلا أنها تحتاج قبل كل شيء أن تتحرر من الهيمنة الخارجية، لتثبت أنها حرة مستقلة ذات سيادة، ولتبرهن أن أوروبا الثقافة والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، أسمى من أن تتحكم بها رؤى منحازة، تكيل بأكثر من مكيال.وأما العنصر الثالث في هذه الحرب الصامتة، فهو يتمثل في هذه المسميات السياسية الموجودة حينما يشاء أصحابها لها ذلك، والغائبة حينما أيضا يشاء لها أصحابها أن تغيب. والمقصود هنا المجتمع الدولي، وأصدق تعريف له هو الدول الكبرى حفيدة الاستعمار والتي تدور في الفلك الأميركي، والرباعية من ذات الإطار. أما الضمير العالمي فهو أيضا ضمير هذه الدول. وبمعنى أدق وأصح هو منظومة مصالحها القائمة على الإستحواذ والهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب الضعيفة، ذلك أن روح الاستعمار ما زالت تعشعش في ثنايا تفكيرها، وأدق دقائق مصالحها.ويبقى العنصر الأخير في هذه الحرب. وهنا مربط الفرس. إنه العالم العربي. العالم الذي يفترض أن أبناءه أشقاء الفلسطينيين. العالم الذي يفترض أيضا أن فلسطين جزء لا يتجزأ من خارطته السياسية والقومية والاجتماعية والثقافية والعقائدية. العالم الذي يفترض أن القدس والأقصى المبارك والصخرة المشرفة تشكل مساحة شاسعة من تاريخ أمجاده، ومن عقيدته السماوية السمحة.هذا العالم العربي الصامت وهو يرى الدم الفلسطيني ينزف مدرارا، وفلسطين تغتصب شبرا فشبرا من الخارطة العربية، والقدس يجري تهويدها، والأقـصى يتربـص به « أمناء الهيكل «. إزاء صمت الضمير العربي هذا، فهل يتوقع الإخوة الأشقاء من الفلسطينيين أن يستجدوا منهم ما يفترض أنه واجب مقدس، تفرضه العقيدة والتاريخ والانتماء القومي ؟. في اعتقادي أن القضية الفلسطينية أسمى من مجرد كونها حالة إنسانية إجتماعية.لقد طالت المعاناة الفلسطينية بعامة، وحصار غزة الظالم بخاصة، وحتى اليوم لم يسمع صوت عربي فعال يتصدى لهذا الحصار. وإذا كان ما يسمى بالمجتمع الدولي الذي غاب ضميره، فلم يعد يسمع، أو يرى ما يحدث في الوطن الفلسطيني من مآس وكوارث ممثلة بالاجتياحات المدمرة والحصارات الخانقة، فهو في النهاية مجتمع منحاز، يتصرف وفق مطامعه ومصالحه وأهدافه. وفي هذه الحال، فلا يجدي له لوم ولا عتب، ولا يراهن عليه.لقد كانت هذه الحصارات الاحتلالية لكل التجمعات السكانية الفلسطينية بعامة، وقطاع غزة بخاصة، وما زالت رمزا لاحتلال بغيض مفروض بالقوة الغاشمة. إن الممارسات اللاإنسانية التي يعامل بها الفلسطينيون، ما هي إلا سيناريو يومي مادته منظومة عقوبات جماعية جسدية ونفسية مخطط لها ومبرمجة. وهي تتنافى مع كل الشرائع السماوية والأرضية، والأهم من ذلك أنها لا تشكل مدخلا، أو منطلقا لأية عملية سلمية محتملة كونها ملتفة على طريق السلام العادل والمشرف.كلمة أخيرة. إن الفلسطينيين، وقد تركوا وحيدين في وجه هذه التحديات الخطيرة، لا يريدون أن ينفضوا أيديهم من علاقاتهم وروابطهم التاريخية والعقائدية والقومية بأشقائهم العرب، وأن يعلنوا يأسهم منهم. وهم يتمنون على الله أن تكون هذه الحال غمامة طارئة، سرعان ما تزول، وان لا يطول غياب الضمير العربي، وأن لا يكون غيابا عامدا متعمدا. وهم يرفعون أيديهم إلى السماء، داعين الرب العلي أن يعيد لهذه الأمة وحدتها، وسيرتها الأولى.واذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا
غزة بين العقل والعاطفة
أخبار متعلقة