السؤال اليوم لم يعد عن كيفية حدوث ذلك، فالطريقة لم تعد تهم بقدر ما يهم الاتجاه القادم. لقد أصبح السؤال الأكثر عقلانية هو: إلى أين نمضي؟ وما شكل اليمن الذي يتخلق الآن من بين تشققات هذا الواقع؟ فدولة 22 مايو التي حملت حلم التوحيد لم تعد قائمة إلا في الصور الرسمية والهوية الوطنية، بينما على الأرض لم يبق منها إلا مبانٍ بلا وظيفة، وأختام تحمل اسم الدولة التي لم تعد موجودة، وذكريات زمن كانت فيه فكرة اليمن الواحد ممكنة أو قابلة للنقاش. لقد تهاوت أركان تلك الدولة وتصدعت وحدتها، وتحوّل اليمن تدريجيًا إلى فضاءات سياسية متناقضة لا يربط بينها سوى حدود جغرافية مرسومة على الخرائط أكثر مما هي قائمة في الواقع.
اليوم، يمضي الجنوب بخطى ثابتة نحو مشروعه السياسي، ليس بدافع الانفصال اللحظي، بل بدافع بناء كيان يرى أنه قادر على إدارة نفسه، وأنه لم يعد جزءًا من معادلة الوحدة التي انكسرت منذ زمن. في المقابل، يرسخ الحوثيون سلطتهم في الشمال كأمر واقع، بمؤسسات وضرائب وإدارة أمنية وعسكرية، وبنظام سياسي كامل لا يعترف بالدولة القديمة إلا كمرحلة تجاوزها الزمن. أما المناطق الأخرى، فهي موزعة بين مراكز نفوذ لا يجمعها رابط، ولا يضمها مشروع واحد، تتعايش مع الواقع من موقع اضطراري لا من موقع اختيار سياسي.
وسط هذا الانهيار الكبير، فقدت “الشرعية” معناها الحقيقي. تحولت إلى شعار يردده السياسيون أكثر مما تمثله مؤسسة حاكمة. سلطة فقدت أدواتها، وتلاشت قدرتها على التأثير في موازين القوى، وصارت أشبه بعلامة تجارية تستخدمها الأطراف حين تحتاج إلى غطاء قانوني أو خطاب سياسي. لم تعد الشرعية دولة، ولا هي قادرة على حماية شكل الدولة التي تتحدث باسمها.
وفي هذا المشهد المعقد، تبرز تعز ومأرب بوصفهما نقطتي ارتكاز حاسمتين، ليس فقط لحجمهما السكاني والسياسي، بل لأنهما يمثلان قلب اليمن الثقافي والجغرافي والسياسي، مفصلًا بين الشمال الذي تتشكل هويته السياسية بعيدًا عن الدولة، والجنوب الذي يعيد بناء مشروعه الوطني. تعز ومأرب ليستا مدينتين عاديتين يمكن أن تُتركا للظروف، بل مدينتان شكلتا الوزن الأخلاقي والفكري والسياسي للدولة اليمنية لسنوات طويلة، مدينة بُنيت على فكرة الدولة المدنية، وأخرى شكلت موازين القوى المحلية في الشمال الأوسط.
ومن هنا، يصبح السؤال: أين ستقف تعز ومأرب في لحظة إعادة تشكيل اليمن؟ ما هو الخيار الذي يتوافق مع مصالحهما السياسية والاجتماعية والثقافية؟ وهل يمكن لهاتين المدينتين أن تظلّا معلّقتين بين مسارين، في لحظة يتسارع فيها تشكل اليمن القادم؟
الحقيقة أن علاقة تعز ومأرب بالجنوب ليست علاقة سياسية طارئة أو خيارًا تكتيكيًا. هي علاقة تضامن اجتماعي وتمازج ثقافي ومذهبي وتاريخ مشترك، علاقة تتجاوز الجغرافيا إلى المعنى. وما بين المدينتين والجنوب من تقاطعات يفوق بكثير ما يجمعهما اليوم مع مركز الشمال الذي عاش لعقود على هيمنة ضيقة وإدارة مركزية لم تنتج سوى التهميش وتعميق الفوارق.
لذلك، عندما أعلن اللواء عيدروس الزبيدي استعداده لضم تعز ومأرب إلى الدولة الجنوبية القادمة، لم يكن الأمر مجرد تصريح سياسي، بل كان فتحًا لباب تاريخي جديد، باب يرى فيهما شريكين محوريين في مشروع سياسي يتشكل، لا تابعين ولا ملحقين، بل جزءًا أصيلًا من منظومة جديدة تُبنى من الصفر.
والحقيقة التي لا بد من قولها هي أن مشروع الوحدة لم يسقط اليوم، بل سقط في 2015 عندما نفّذ الحوثيون ومعهم مراكز النفوذ في شمال الشمال انقلابهم على الدولة ومخرجات الحوار الوطني، وأطاحوا بأول رئيس جنوبي لليمن الموحد. منذ تلك اللحظة، لم يعد الحديث عن إصلاح دولة، بل عن ولادة دولة جديدة، لم يعد الحديث عن وحدة قائمة، بل عن واقعين مختلفين تمامًا، يتعايشان قسرًا تحت اسم واحد، بينما كل طرف يبني مشروعه الخاص.
نحن اليوم لا نقف أمام دولة تنهار، بل أمام دولة أخرى تتشكل، تتخلق ببطء ولكن بثبات، دولة تُكتب ملامحها على الأرض لا في الخطابات. والصراع الحقيقي لم يعد على الماضي، بل على من سيملك حق صياغة المستقبل. وفي لحظة كهذه، لا يمكن لتعز ومأرب أن تظلّا متردّدتين، ولا أن تظلّا في منطقة رمادية. عليهما أن تحددا موقعهما بوضوح، لأن من يتأخر عن اللحظة يفقد مكانه فيها.
ومكان تعز ومأرب الطبيعي، بحكم التاريخ والمصلحة والانتماء، هو الجنوب، حيث تتقاطع الهوية مع الرؤية، وحيث يتشكل مشروع يمكن لهما أن تكونا فيه عناصر قوة لا عبئًا، وأصواتًا فاعلة لا تابعة، وشريكين كاملين في بناء مستقبل مختلف لليمن الذي يتخلق من جديد.
