وكلما تعمق عقل الفرد في المعرفة وصل إلى حالة من استيعاب طرق التخاطب. لكن حين تصبح مساحة الحرية مجرد خط هجوم على طرف لمجرد الاختلاف في الرأي أو غرس التشاحن بين أكثر من جهة، وربما تصل المسائل إلى حد وضع الخصم في قفص الاتهام وإقامة المحاكمة له بدون دفاع، وكأن الاتهامات حبل يلتف حول عنق من نريد جعله هدفا. الكثير من المواقع والأفراد لم تعد لهم مصداقية عند الرأي العام، بل وصلت القضية إلى وضعهم في دائرة تسويق الأكاذيب والعمل لحساب جهات تدفع بهم من الخلف.
إن مسألة الاختلاف في الرأي ووجهات النظر والموقف والانتماء السياسي من الحقوق المشروعة لكل فرد، سواءً من الحقل الإعلامي أو من خارجه. لكن الحد الفاصل بين حرية التعبير وتحويل الحرية إلى هجوم شخصي هو مستوى الوعي الثقافي في التعامل مع هذه الاجهزة. وليس كل من تعامل مع تقنية العصر تحول إلى عنصر مشارك في تطوير المعرفة والارتقاء بوعي المتابع، بل هناك ممن يتابع هذه المواقع من هو أعلى ثقافياً من هذه الفوضى باسم تحريك الرأي العام. وحين يصل الموقع مع صاحبه إلى حالة الإفلاس عند العامة لم يعد لهذه التقنية العلمية من قيمة مهما علت في جودة إنتاجها الصناعي، لأنها وصلت إلى يد تعبث بقيمتها العلمية.
لقد حدث هذا مع الفضائيات التي أطلقت منذ عقود وكان الغرض منها شحذ الصراعات بمختلف أنواعها بين الناس، وفي عدة دول. لكنها وصلت في النهاية إلى درجة الصفر مما تقدمه للجماهير، ووصل اصحابها إلى القناعة بأن هذه الفضائيات يجب إغلاقها لأنها وصلت إلى أدنى درجة من الغياب عن الحضور بين الفضائيات التي عملت على إدراك أن القضايا العامة ليس من السهل أن تصبح رهينة الغرض الواحد.
كلما مرت مراحل من الوقت علينا مراجعة مسيرة العمل وتحديد مستوى كل فترة في التعامل، وهذا من الوعي الثقافي عند من يدرك أنه ليس الأوحد في الفضاء المعرفي. مجتمعاتنا تحمل الكثير من الأزمات والقضايا والصراعات والبحث عن المخارج. وبدلاً من الذهاب إلى سوق المهاترات الشخصية، علينا المشاركة في طرح الإجابات عن واقع الأزمة، ونحن على يقين بأن معظم الجهود لو ذهبت نحو بناء النقد المدرك لواجب المعرفة لوصلنا إلى معرفة على أي مساحة من الوعي والتفكير نقف. لكننا مازلنا -كما يرى الطرف المتقدم حضارياً -شعوب تحت مستوى التاريخ، حتى المعرفة علينا التعامل معها من باب التشاحن وتفجير المواقف. والشيء الخطير في هذا ما تخلقه هذه المهاترات من ضغط نفسي ربما يصل في الشارع إلى إصابات طائشة.
