
بيت بسيط، متواضع، لكنه عامر بالحب والوفاء.
هناك، جلس الرجل الهادئ العفيف، وقد أنهكه المرض والسنون، لكنه ما زال يحتفظ بتلك الابتسامة التي طالما سبقت العدسة إلى قلوب المشاهدين.
لم يكن اللقاء رسميًا ولا إعلاميًا لالتقاط الصور، بل كان زيارة «واجب» وإنسانية بامتياز، كأن النقابة جاءت في الوقت المناسب لتقول له: لم ننسَك يا حبيب الضوء، وإن نسيتك الدولة.
عيدروس باحشوان، ربان النقابة، روى لنا المشهد بصوت متكسر بالأسى، وقال:
«حين رأيته على سريره الخشبي المتهالك، شعرت أن الوطن كله مريض. رجل أفنى عمره في صناعة الوعي، واليوم يكابد وحده قسوة الشيخوخة وراتبًا لا يكفيه لأسبوع واحد.»
كان حبيب أحمد يتحدث بتعب، لكن ذاكرته لا تزال صافية كعدسة كاميرته القديمة، يستعيد شريط عمره كأنه يشاهد بثًا مباشرًا من زمنٍ لم يعد.
من القاهرة إلى عدن، ومن استديوهات ماسبيرو إلى تلفزيون عدن، عاد يحمل شهادة الإخراج، وبدأ رحلته الطويلة مع الكادر العدني منذ السبعينيات، حين انفصل التلفزيون إداريًا عن الإذاعة، ليبدأ عصر الصورة العدنية المستقلة.
أخرج برامج الأطفال والمنوعات، نقل المباريات والفعاليات، وسافر في بعثات تدريبية إلى تشيكوسلوفاكيا وسوريا ومصر، قبل أن يعود ليقدّم عبر شاشة عدن أعمالًا لا تُنسى.
وثّق المساجد التاريخية بكاميرته، ونقل تفاصيل الحياة العدنية بصدقها وعفويتها.
كان أول من التفت إلى أهمية الصورة في بناء الذاكرة الوطنية، يوم لم يكن أحد يصدق أن الكاميرا يمكن أن تكون وثيقة تاريخ.
لكن اليوم، المخرج الذي أدار عدسات التلفزيون يومًا، يعيش في زاويةٍ مهملةٍ من الوطن.
لا عدسته تعمل، ولا راتبه يكفي، ولا وزارة الإعلام تتذكر أمثاله الأوفياء إلا في نشرات النعي.
يجاهد المرض هو وزوجته بصبر، ويكتمان الوجع بكرامة، كأنما يخشى الحبيب أن يُحرج الدولة بضعفه.
من زاروه اليوم خرجوا مكلومين، كما وصف باحشوان، وقال رفيق دربه عبدالله حاجب:
«خرجنا نحمل في صدورنا غصّة، كيف يُترك مثل هذا الرجل لمواجهة المرض والفقر وحده؟»
ومع ذلك، ظل حبيب أحمد يبتسم، وقال لهم وهو يتوجع:
«ما زلت أحب عدن، وأقسم أنني أعشقها، وما زلت أؤمن أن الصورة يمكن أن تُصلح ما أفسدته السياسة.»
جملة تختصر حكاية عمرٍ كاملٍ من الإخلاص والإيمان بالمهنة.
لقد كان حبيب أحمد، كما وصفه زملاؤه مخرجًا من طينة الكبار، لا يرفع صوته، ولا يتحدث كثيرًا، لكن حضوره في كل لقطة كان واضحًا كضوء الفجر.
ذلك الضوء الذي خفت اليوم في جسده، لكنه ما زال يضيء ذاكرة جيلٍ بأكمله.
زيارة النقابة كانت واجبًا، لكنها أيضًا كانت مرآة لوضع أمةٍ تنسى رموزها حين يمرضون، وتكرمهم فقط حين يرحلون.
في بيت القلوعة جلس المخرج الكبير متعبًا، لكنه لم ينكسر، لأن من مثله لا يُهزم؛ فالكاميرا التي رآها عينًا للحقيقة، ما زالت شاخصةً في قلبه، حتى وإن أطفأها من لا يخاف يومًا تشخص فيه الأبصار.
الله المستعان.