
فأن تدعو المقالات إلى دولة مدنية، بلا مشيخة، وبلا سلالة، وبلا تمايز مناطقي، فذلك مطلب عادل ووجيه، لكنه ليس جديدًا ولا مستحدثًا، بل هو اللبنة الأساسية في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، التي صاغتها كل المكونات السياسية والمجتمعية، بما في ذلك الحراك الجنوبي والحوثيون أنفسهم قبل انقلابهم.
تناقض الخطاب مع الإنجاز المؤسساتي
ما يغيب – للأسف – في بعض الكتابات التحريضية أو الخطابية، هو الاعتراف بأن: مشروع الدولة المدنية ليس حلمًا مؤجلًا، بل وثيقة قائمة وموقّعة، تتطلب الإرادة السياسية لتنفيذها، لا استبدالها. وأن مبادئ المواطنة، والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وتحييد المؤسسة العسكرية، والحكم الرشيد، ليست شعارات طوباوية، بل نصوص صريحة ضمن وثيقة الحوار، وأن العودة إلى نقطة الصفر، أو القفز فوق المرجعيات التوافقية، ليس إلا وصفة مضمونة لإعادة إنتاج الفوضى والاقتتال.
ومن اللافت أن بعض الخطابات الجديدة، رغم ما تحمله من نفَس نقدي مشروع، تتجاهل أن أي مشروع وطني حقيقي لا يمكن أن ينطلق خارج إطار التوافق الوطني الجامع. إذ لا معنى لأي دعوة لتجاوز السلالة أو القبيلة أو الجغرافيا دون أن ترتكز هذه الدعوة على مشروع دستوري مكتمل ومقبول من مختلف الأطراف. وهنا تحديدًا تبرز قيمة مخرجات الحوار الوطني كصيغة جامعة ضمنت تمثيل كل الأطراف، وطرحت حلولًا جريئة وعملية لمعالجة المظالم التاريخية وإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس عادلة، لا لشرعية بديلة متنكرة في ثوب أخلاقي.
ثمة خطر متكرر يكمن في هذا النوع من الطرح: أن يتحوّل من نقدٍ مشروع إلى دعوة ضمنية لشرعية بديلة، تغذي وهم تجاوز المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار، والقرارات الأممية ذات الصلة وعلى رأسها القرار 2216).
إن إغفال الإشارة إلى هذه المرجعيات لا يمكن أن يكون سهوًا بريئًا، خصوصًا حين يأتي من كتاب ومثقفين يفترض أنهم مطّلعون على المسار الدستوري والسياسي للحل. فتغييب المرجعيات إما تجاهل غير مبرر أو تحايل ممنهج، والاثنان يفتحان الباب لخطاب قد يُفهم أنه يُمهّد لبدائل تعسفية، لا تمثل إلا مصالح ضيقة أو نزعات مناطقية متنكرة في عباءة الوطنية.
مسؤولية المثقف بين النقد والبناء
المثقف الجاد لا يكتفي برصد التشوهات التاريخية، بل يقدم سُبلًا لتجاوزها، ضمن السياق السياسي الممكن، لا السياق المتخيل. فبين المبدئية والتسييس خيط رفيع، وعلى المثقف ألا ينزلق إلى خطاب يبدو عقلانيًا لكنه فعليًا يسحب البساط من تحت مشروع الدولة لحساب خطاب الفوضى. فكل نداء للتغيير يجب أن يُربط بموقعه من المرجعيات، لا أن ينطلق منها فارغًا أو متعاليًا، ولعلّ أكثر ما تحتاجه اليمن اليوم هو إعادة الاعتبار للمرجعيات المتفق عليها عبر: التذكير الدائم بما تضمنته من حلول عادلة ومتقدمة، فضح القوى التي عطلت تنفيذها لصالح مشاريع طائفية أو مناطقية، بناء رأي عام يدفع نحو استكمال تنفيذها، لا الالتفاف عليها بخطابات تائهة أو مشروعات ضبابية.
الخاتمة: لا دولة مدنية خارج الشرعية الوطنية
إن تأسيس دولة المواطنة المتساوية لا يتم بالنوايا ولا بالخطابات التجريدية، بل عبر الاعتراف الصريح بالمرجعيات الوطنية، والعمل على تنفيذها دون مواربة. فكل من يتحدث عن دولة مدنية دون أن يربط ذلك بمخرجات الحوار الوطني، هو إما واهم أو مغالط.
ولذلك يجب أن يكون المثقف الحقيقي جزءًا من الحل، لا شاهدًا على الانهيار أو مروجًا لمسارات التفكيك، حتى لو جاءت بلغة جذابة وأخلاقية. فبين الحلم والدستور مسافة لا يمكن القفز عليها دون ثمن، وثمن تجاهل الاستحقاق الوطني هو مزيد من التيه، لا ميلاد الدولة.