
دعوات المصالحة: نوايا نبيلة
أم إعادة إنتاج للأزمة؟
في ظل ما يشهده اليمن من انسداد سياسي، وتردٍّ اقتصادي، وتفكك في منظومة الدولة، تتعالى بين الحين والآخر دعواتٌ للمصالحة الوطنية، يطلقها بعض النخب السياسية والأكاديمية، حريصةً – في ظاهرها – على تجاوز الاستقطابات وتجنيب البلاد المزيد من الانهيار.
لكن حين تُطرح هذه الدعوات بمعزل عن العدالة، والمساءلة، والتمييز بين الضحية والجلاد، فإنها لا تعني شيئًا سوى إعادة تدوير الأزمة، لا تفكيكها، ومنح غفران مجاني لفاعلين ما زالوا يمارسون العنف وينقلبون على التوافقات الوطنية حتى اللحظة.
الواقع الميداني: نزيف مستمر
ومحتكر للسلاح
تقتضي المصالحة الحقيقية أولًا توقّف النزيف. لا يمكن بناء سلام بينما طرفٌ في المعادلة لا يزال يحتكر السلاح، ويُخضع الناس لحكم الأمر الواقع، ويرتكب انتهاكات يومية. ميليشيا الحوثي لا تزال تقصف المدن، وتُقحم الأطفال في الجبهات، وتستثمر المفاوضات لكسب الوقت أو تحسين التموضع، لا لإنهاء الحرب.
تاريخ من الانقلاب على التوافقات
المشكلة لا تقتصر على استمرار العنف، بل على الرفض الممنهج لمرجعيات الدولة. فالحوثيون لم يكتفوا بالانقلاب على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، التي شاركوا في صياغتها ووقّعوا عليها، بل أيضاً انقلبوا على اتفاق السلم والشراكة الذي التزموا فيه بإعادة السلاح إلى الدولة، وهو ما لم يحدث.
وفي مفاوضات بييل وجنيف والكويت، ثم أخيراً في اتفاق ستوكهولم، كانت الجماعة بارعة في كسب الوقت والمراوغة، مستخدمةً كل اتفاق كسلّم لتحقيق مكاسب ميدانية، دون أدنى التزام بجوهره السياسي أو الأمني.
رفضهم المتكرر للتسليم بأن الدولة الحديثة – كما حدّدها ماكس فيبر – تحتكر العنف والسلاح المشروع، يجعل من أي طرح لمصالحة خارج هذا الإطار، محاولة قسرية لـ “تطبيع الانقلاب”، لا لإنهائه.
مغامرات مكلفة وتحالفات كارثية
فمنذ أواخر 2023م، دخل اليمن في مرمى ضربات بريطانية وأميركية وإسرائيلية، على خلفية التصعيد الحوثي الموجه من إيران ضد حركة الملاحة في البحر الأحمر.
عدالة انتقالية لا مساواة زائفة
لا تصحّ المساواة بين من فجّر البيوت وزرع الألغام، وبين من نُكّل به أو هُجّر من قريته. كما لا يستوي من أمسك بالسلاح خارج الدولة، بمن طالب بإصلاحها من داخلها.
هذه ليست دعوة للتشفي، بل لتطبيق ما عرفه العالم في تجارب العدالة الانتقالية: الإقرار بالحقيقة، الاعتراف بالخطأ، وتقديم ضمانات بعدم التكرار.
ولنكن واضحين: الحديث عن محاسبة من انقلب على الإجماع الوطني لا يُقصَد به الانتقام أو الإقصاء، بل التأكيد على مبدأ لا تستقيم المصالحة من دونه. فالدعوة إلى السلام لا تعني التطبيع مع الجريمة، ولا يمكن أن تُبنى دولة مدنيّة على أرضٍ تسوّى فيها الجرائم بالحصانات الجماعية.
الاعتراف بالانقلاب كمخالفة جسيمة للتوافق الوطني والدستوري هو شرط أخلاقي وسياسي لأي تسوية دائمة، لا بديل عنه إن أردنا لليمن مستقبلًا بلا انقلابات متكررة ولا سلطات أمر واقع تفرض مشاريعها بالحديد والنار.
ولن نكرّر أخطاء “مصالحة لا غالب ولا مغلوب” التي ساوت بين الجلّاد والضحية، وسمحت بإعادة تدوير العنف كأداة تفاوضية. فالمصالحة تبدأ من الحقيقة، والمساءلة، وضمانات عدم التكرار؛ وهي مبادئ كرّستها تجارب من جنوب أفريقيا إلى رواندا وكولومبيا.
خاتمة: ثلاث ركائز لأي مصالحة منصفة
نُرحّب بأي مبادرة تُنقذ اليمن وتُعيد بناء دولته، شريطة أن تقوم على ثلاث ركائز أساسية:
1. استعادة سيادة الدولة على السلاح والمؤسسة الأمنية.
2. محاسبة من انقلب على الإجماع الوطني، لا مكافأته.
3. التأسيس لنظام ديمقراطي يضمن المواطنة المتساوية، والتداول السلمي للسلطة.
فمن دون ذلك لا نكون بصدد مصالحة، بل إعادة إنتاج للهيمنة بالعنف، وتكريس لمنطق الميليشيا كبديل عن الدولة.