
هذه المدينة لم تعد تشبه نفسها بملايينها التسعة والنصف وشكل خريطتها غير المنتظم في نواحٍ كثيرة فهي مثلثة احيانا ومربعة ومستطيلة ومعينة وشبه منحرفة ان لم تكن منحرفة تماما، لكنها غالبا ماتدور وتدور في حلقات لاتقترب ابدا من التمام.
هذه المدينة حائرة وغير متناغمة وكيف يمكن تفسير التجانس في مدن اخرى كثيرة لا تزال تتنفس؟
ما الذي يجعل السكان سكانا؟ ما الذي يجعلهم متمازجين ومتجانسين ان لم يكونوا من جنس واحد؟
وفي كل الأحوال يكون الزعم بأننا من جميع الواننا المتباينة ننتمي الى جنس واحد قد نختلف شكلا ولغة ولونا لكننا في المحصلة الاخيرة حين ننضاف الى بعضنا البعض نكون واحدا موضوعيا.
وكمثل الحقيقة ان الاثنين والثلاثة يشكلون جمعا فلهذه المدينة جموعها الكثيرة ولكل جماعة أمير يفصل الأمر بينها ولا احد يفصل بين كل هذه الجموع.
ولأن الأمر اصبح موضة متبعة فإن جُريش كان احمق منذ ان وعت عيناه الدنيا ولم يكن حمقه يمكن ان يعيقه ان يدرك هذه الموضة ويحاول محاكاتها. وعلى كل حال من المنطقي القول انه يستحيل ان تخلو ملايين الناس من اكثر من احمق واحد ولم يكن سهلا على جُريش ان يجد الأحمق الثاني والثالث والرابع الذين انطلقوا للبحث عن الحمقى الآخرين الذين لايعلمون بعد انهم حمقى ولم يدرك بعد اهمية ان تتجمع الحماقة في قطيع واحد.
وفي خلال عقد من الزمان وبجهد جهيد انتظم من الحمقى مايزيد على المئة الف بقليل. وهنا حانت اللحظة الحاسمة واعلنت الجماعة انها بحاجة الى أمير وقرع طبل النفير للانتخاب وتقدم المترشحون للمنصب الكبير وتقدم خمسة نفر ليعرضوا ايهم اكثر حماقة من الآخر وكان سادسهم جُريش، وتشكلت لجان ولجان وطغت الحماقة وازبدت وارعدت واحتدم النقاش من هو الأحمق الكبير الذي يستحق الإمارة.
وكانت الجموع تميل غالبا مرجحة كفة جُريش على خصومه كونه هو من ابتدأ فكرة الحماقة.
ومنداس احد الخصوم الخمسة لم يجد بدا من اللعب بقذارة ولؤم واعلن في كل التجمعات الانتخابية انه هو الأوحد الأكثر حماقة، واثبت ذلك بالقول ان جُريش في حقيقته الموضوعية ليس احمق بل مجرد غبي نسب نفسه زورا الى الحماقة ومن غير الغبي الذي يكلف نفسه عناء البحث عن الحمقى وجمعهم في عقد واحد وكأن العالم بحاجة للمزيد من الحمقى، من غير الغبي الذي يرى ان الحماقة يجب ان تكون سربا وقطيعا ينافس غيره من القطعان؟ من غير الغبي الذي يعتقد ان الحماقة يمكن ان تنتج شيئا مفيدا وانها يمكن ان تدير نفسها فأكثر الناس حماقة وبمنطق بسيط يدرك انه بحاجة الى شيء من العقل يتدبر به امره فإن لم يجده في نفسه استعاره من غيره فكما يقال ان رزق العُبط دوما يكون على المهابيل.
اوليست تلك حقيقة اخرى انه طالما هناك عبيط سيكون هناك اهبل وطالما هناك احمق سيكون ثمة هناك غبي وانه ماخلا هؤلاء الاجناس الاربعة لاتوجد حقيقة اخرى للجنس البشري لأن العقلاء عملا بمنطق الحماقة هم حقيقة غير محسوبين على من يمشي على قدمين.
جاهد جُريش طوال عام كامل ان يدفع عن نفسه تهمة الغباء وانه لما يئس من ان الحمقى يمكن ان يفهموا مراده اضطر آسفا ان يكشف الحقيقة المرة ان منداس هو الغبي الحقيقي فمن غير الغبي الذي يكشف للحمقى ان اول من ابتدأ حركة الحماقة شخص لاينتمي اليها وانه في المحصلة كل الحمقى الذين اكتشفهم وجمعهم طوال السنين لم يكونوا حمقى بل مجرد اغبياء كشخص من اكتشفهم وانها لحيرة عظيمة تلك التي اكتنفت المئة الف ان تحاول اكتناه حقيقتها هل هي حمقاء ام غبية وفي الحالين هي تبحث عن هوية عن ماذا تكون.
اسقط في يد منداس ولم يستطع ان يفسر فانسحب واعتزل الحياة العامة.
جُريش لم يجد بدا من الاعتراف لنفسه ان منداس على حق وبما انه غبي فقد مضى يبحث عن الغبي الثاني والثالث معللا نفسه بأماني مثيرة ان الغباء هو خير من الحماقة وعسى تكون خواتيم الغباء خيراً من الحماقة ومن يدري ماذا يكون في آخر هذا المسعى.
المئة الف تفرقت بين الجموع الكثيرة ولم تعدم جماعة من وجود بعض الحمقى فيها وتلك هي حقيقة الاشياء.
تستمر المدينة في ازدهار قطعانها المطعمة بالحماقة وتقطع الزمان سنوات اخرى.
لكن الخطيئة الأولى تظل تلقي بظلالها على هذه البقعة من الأرض فلاشيء يقتل العقل اكثر من الحماقة ولاشيء يقتل الحماقة من بعض التعقل.
ومن بين كل الاشكال غير المنتظمة تدور هذه القطعة في حلقات وحلقات وكلما انتهت حلقة ابتدأت اخرى دون ان تدرك حقا انها نفس الحلقة تدور حول نفسها.