ضاعفت مأساة الطبيعة وكوارثها حزن اليمنيين، حيث تجتاح البلد الكبير كوارث سيول محزنة، ولا تجد تلك المأساة من يسمع بها وينصت لأنّات أهلها، فهذه الأيام يعيش اليمن كارثة حقيقية جراء السيول وما خلفته في كل منطقة من تهامة اليمن. وتزداد المخاوف من وصول منخفضات جوية صعبة وتواصل الأمطار الغزيرة لتتفاقم الأزمة الإنسانية ومعها تتسع رقعة المناطق المتضررة، لاسيما والضرر البالغ طال مناطق واسعة من الحديدة وتعز وحجة، ومعظم ساحل تهامة. ويزيد من حدة المأساة الانقسام الداخلي حيث جزء كبير من هذه الأراضي تحت سيطرة ميليشيات الحوثي، وتعاني انعدام الدولة ومحدودية الجهود الإغاثية لإنقاذ ومساعدة الأهالي في ريف يفتقد الكثير من الخدمات الأساسية أصلا على مدى السنوات السابقة.
ولأن الكارثة حلّت بتهامة، ضاعف ذلك من شعور اليمن بالألم منفردا بجرحه. فتهامة، المنطقة الخصبة والواسعة بمعاناتها، تشبه معاناة اليمن ككل أمام الاهتمام العالمي، فهي تختزل مأساة هذا البلد بكل معنى الكلمة. هي الأرض التي تقدم الخير للجميع ولا تجد إنصافا من الكل. فالأرض الممتدة في السهول الخصبة وحتى آخر جبال تهامة هي سلة غذاء اليمن ومنبع أبرز محطات تاريخه البهي. ومع ذلك، تقبع في آخر سُلم التنمية وجدول اهتمام الساسة والمنظمات.
تاريخيا، لا يعرف الكثير من شباب هذا الجيل أن وجه اليمن الذي صدره التاريخ للعالم كان هو تهامة بخصوبة أرضها وطيبة أهلها ومنابر علمها. وهم من قيل فيهم: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية». وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلا من أهل اليمن سأله: «هل من امبر امصيام في امسفر؟». فرد عليه صلى الله عليه وسلم: «ليس من امبر امصيام في امسفر». والحديث أخرجه أحمد في المسند.
وهذه لغة لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميما، أي إبدال اللام في أداة التعريف «الـ» ميما. ولا تزال بتهامة وبعض مناطق اليمن الأخرى تُنطق كذلك، ال التعريف هي ميم، نقول «ام سوق» أي السوق، و«ام كتاب» أي الكتاب. وفي هذا الساحل كانت إطلالة اليمن على العالم ونافذة الدعوة إلى إفريقيا وصنع حضارة منفتحة، لذا معظم هجرات إفريقيا لمعظم القارة كانت من ساحل تهامة.
وحيث وقد ذكرنا اللغة وتهامة، فلابد من التذكير بأن أعظم معاجم اللغة العربية، «القاموس المحيط»، للإمام اللغوي مجد الدين أبي طاهر محمد الفيروز آبادي، المتوفى سنة (817 هـ)، أُنجز تأليفا ونشرا في زبيد التي تولى القضاء فيها عندما كانت مدينة العلم للعالم الإسلامي إبان حكم الدولة الرسولية التي اتخذت تعز عاصمة لها، وجعلت زبيد عاصمة للعلم، وهي عند اليمنيين بمثل الأزهر في مصر وجامعة القرويين بفاس في المغرب، وجامعة الزيتونة بتونس.
وزبيد هي حاضرة تهامة التي تعاني الآن كارثة مزدوجة، فهي مدينة مصنفة ضمن التراث الإنساني، ولكنها بسبب الحرب تنهار كليا، وزادت ظروف الكوارث الطبيعية من حدة معاناتها.
وتتعرض المدينة الأثرية وأكبر مخزون للمخطوطات لدمار يُدمي القلب.
لقد فجرت مأساة كارثة السيول المستمرة في تهامة ملف ألم متراكم في قلوب اليمنيين، حيث دمر تهامة سيل الإهمال والتهميش قبل سيل هذا الصيف القاتل، وعانت المنطقة تسلط المركز ونظرة الصراع السياسي والطائفي نحوها، لعقود طويلة ولا تزال. فحقول القمح التي هي سلة الغذاء لليمن السعيد تحولت إلى حقول ألغام لليمن المنكوب، وشواطئ البحر الأحمر التي كانت مصدر فخر اليمنيين بأنها نافذتهم نحو الحضارة وصنع التاريخ، صارت منصة لتعزيز ضرب الاستقرار وجلب كل مدمرات العالم لتقصف بلد أبي موسى الأشعرى ومهبط سفن صلاح الدين الأيوبي، الذي أرسل شقيقه إليها وأسس بعدها أعظم دول الذاكرة الإسلامية، أي دولة بني رسول واستمرت مزدهرة لأكثر من مائتي عام. فهل تكون كارثة السيول الجارفة التي أودت بعشرات الضحايا وعشرات القرى ومختلف الممتلكات، بداية يقظة لليمن ليوقف التشظي وينهض بمشروع من تهامة الخير، ويلملم جراح وطن اتسع ليشمل قلوب أكثر من ثلاثين مليونا من أهل الحكمة؟ لتؤكد تهامة: «إنّ الشجرة لا تبكي على غصنها الذي خلعته الريح، بل تعضُّ على جرحها وتنتظر الربيع لتنبت غصنًا آخر، وتُزهر».