تكمن خطورة هذه الأزمة في تفجرها وسط ظروف إقليمية تسهم في تأجيج التوتر المذهبي وفي أعقاب تجربة تعايش لبنانية كشفت فشلا مزدوجا على صعيدي رهان اللبنانيين على «وطن» جامع يتساوى فيه أبناؤه بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية وتطلعهم إلى «دولة» عصرية توفر المتطلبات البديهية لحياتهم اليومية - بدءا بالأمن وانتهاء بالطاقة الكهربائية - وقابلة لأن تكون «البديل» عن الوطن.
مأساة لبنانيي اليوم أنهم شعب بلا وطن ولا دولة معا. معظمهم يتمنى لو تترجم على أرض الواقع مقولة رئيس الوزراء اللبناني السابق، فؤاد السنيورة، بأن ما كان «قبل» اغتيال القيادي في تيار المستقبل، محمد شطح، لن يكون «بعده»، إذا كان الوعيد يعني وقف مسلسل الاغتيالات السياسية ووضع حد لمسيرة القضم الممنهج لما تبقى من مقومات الدولة المدنية. ربما كان الموعد الأنسب لتمنيات السنيورة في 15 فبراير (شباط) 2005، أي غداة اغتيال رئيس الحكومة السابق، رفيق الحريري.
وتأخرها أكثر من ثماني سنوات عن ذلك الموعد لم يفقدها الكثير من مصداقيتها فحسب، بل بدأ يدفع العديد من المثقفين اللبنانيين إلى تجاوز ما كان يعتبر من محرمات النقاش السياسي: التساؤل عما إذا كان قيام «لبنان الكبير»، عام 1920، خطأ كبيرا ارتكبه بحق أجيالهم اللاحقة الجنرال الفرنسي غورو والبطريرك الماروني الحويك. وفي هذا السياق يدعم المشككون في جدوى تأسيس «لبنان الكبير» ارتيابهم في مقدرته على البقاء واحدا موحدا بملاحظتهم أن معظم أزماته المصيرية - إن لم يكن كلها - كان مصدرها الأقضية الأربعة التي ضُمّت إليه بقرار فرنسي (المدن الساحلية وجبل عامل وسهل البقاع والسهول الشمالية).
كيان «لبنان الكبير» الذي اعتبرته فرنسا، عام 1920، ضمانة جغرافية لمسيحيي لبنان أصبح اليوم، وبفعل التحولات الديموغرافية لمجتمعاته، ساحة تنافس مذهبي المنحى على النفوذ السياسي. أدهى ما في هذا التنافس الذي يستدرج تدخلا خارجيا في شؤون لبنان الداخلية ويستظل به، أن ضحيته الأولى هي صيغة التعايش التعددي لأبنائه.. مع علم الجميع بأن القضاء عليها يستتبع القضاء على علة وجود «لبنان الكبير».
على ضوء خلفية لبنان التاريخية يبدو لافتا أن تعود فرنسا إلى التعاطي المباشر مع الشأن اللبناني بعد 97 سنة على تفاهم ممثلها، جورج فرنسوا بيكو، وممثل بريطانيا، مارك سايكس، على إقامة كيان «لبنان الكبير» (في سياق تقاسمهما لتركة الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط). هل تطمح فرنسا للعودة إلى لعب دور «الأم الحنون» للبنان (ربما على قاعدة «اللي شبكنا يخلصنا»)، أم أن عودتها، هذه المرة، مشروطة بمسلمات إقليمية ودولية وبالتالي بدور محدود الأبعاد؟
عودة فرنسا إلى لبنان تتم اليوم في إطار معطيين مفروضين سلفا على حركتها: تمويل عربي محدد الأهداف، ومباركة أميركية ضمنية - رغم كل ما يقال عن مغزى اختيار العتاد الفرنسي، عوض الأميركي، لتسليح الجيش اللبناني، مما يعني أن فرنسا ستتصرف في لبنان بموجب وكالة عربية - أميركية، تعد بأن يكون لبنان «حصة» العرب والغرب - إن صح التعبير - لا حصة روسيا وإيران، في أي تسوية شاملة لأوضاع الشرق الأوسط قد يخرج بها مؤتمر «جنيف 2» أو «منترو - 1».
بانتظار أن يتضح مستوى التسليح الموعود للجيش اللبناني ونوعيته، وتحديدا «أمر المهمة» الجديد للمؤسسة العسكرية، يأمل العديدون أن يحقق السلاح الفرنسي هدفين ملحين: تعزيز إمكانات الجيش بحيث يصبح مؤهلا لحماية حدودهم من كل الأخطار الخارجية، وتعديل ميزان الخلل العتادي مع السلاح غير الشرعي المنتشر فوق أراضيهم.
قد يكفي إنجاز هذين الهدفين لإعادة شيء من الثقة إلى نفوس المحبطين من تركيبة كيان «لبنان الكبير». وإكمالهما بنجاح، فرنسيا ولبنانيا، يبرر القول (بالإذن من الرئيس السنيورة): ما كان قبل الهبة السعودية للجيش اللبناني لن يكون بعدها.