جاء «6 أكتوبر» والجار الذى كان قد شاخ على الجبهة وتيبست أطرافه منذ حرب اليمن كان قد أصابه اليأس، دمياطى لديه ورشة استورجى وماكينة تجارته معطلة وأحلامه قد أصابها الذبول، والعم الذى كان يحكي للطفل عن أسطورة الصاروخ «سام 6» الذى يتتبع «الفانتوم» أينما ذهبت، كان يحكي وكأنه يحكي له قصة «السندريلا» أو «الشاطر حسن» و«السندباد»، بالرغم من أن العم حصل على شهادة عليا وقد عطله الجيش عن الوظيفة، لأنه صار يستعين فى طبعته الجديدة بعد «محمد فوزى» بالمؤهلات إلا أنه كان ينتظر لحظة الثأر بشغف وشوق، وزوج الخالة المهندس فى شركة «عثمان أحمد عثمان» الذى كان مشاركاً فى خطة خداع العدو الإسرائيلي فى بناء ماكيتات قواعد الصواريخ الخشبية التى ينشغل بدكها وتدميرها فيتفرغ شباب الجنود لبناء قواعد الدفاع الجوي التى لا يمكن أن ندخل الحرب بدونها وبدون تغطية سمائنا المكشوفة، بكى الطفل فرحاً على أنغام «بليغ حمدي» و«على الربابة» و«بسم الله» وعلى موسيقى «على إسماعيل» و«راجعين فى إيدينا سلاح»، كان ينتظر بلهفة مسلسل عبدالحليم «أرجوك لا تفهمني بسرعة» على موجة «الشرق الأوسط»، فإذا بالحلقة العاشرة لا تذاع ويذاع بدلاً منها البيان رقم 1، وتتوالى البيانات وتلمع عيناه بالصدق والتصديق، فى قرية الشعراء يتجمع الفلاحون حول الراديو لسماع صوت «صالح مهران» الرخيم المجلجل وهو يتلو بيان العبور.
صار المستحيل حقيقة، عرفنا أن مهندساً مسيحياً صغيراً اسمه «باقى» هو الذى ابتكر طريقة تحطيم الساتر الترابى بخراطيم المياه، لم نكن نسأل وقتها عن ديانته فقد كانت الدماء المصرية تسيل على الضفة لا تعلن عن دينها أو انتمائها السياسي وإنما تعلن عن شيء واحد فقط وهو مصريتها، لم يفرح الطفل بالإجازة التى سيلعب فيها ويستريح من تعب وإرهاق المدرسة، ولكنه تحول إلى مجرد أذنين مصغيتين وعينين براقتين لامعتين وجسد راداري يلتقط الهمسة ويرصد لحظة الانتصار، تحول إلى محلل سياسي يصم البيانات العسكرية وهو الذى كان بالكاد يحفظ أناشيد المدرسة!، ذكريات وشجون أكتوبرية هي كالحلم، ولكنها ما زالت تشحن بطارية الأمل.