في 2011 انتفض الشعب اليمني المطحون بالفقر و الظلم وانسداد الامل ومن الطبيعي ان تكون انتفاضته موجهة ضد كل اسباب الفقر و الظلم و انسداد الامل غير ان ذلك كان يعني ملامسة جوهر المعضلة وتهديد نظام سياسي و اقتصادي و اجتماعي برمته.
كان النظام يخوض معركتين: معركة ضد الشعب الذي ينتفض و معركة داخلية مع التشرخات التى اصابت بنيته السائدة ونقلت الصراع الى داخل تحالفاته الحاكمة منذ انقلاب نوفمبر 67 . وكان الشعب يكافح في جبهتين : يكافح ضد واقع ونظام لا يرحمان ويكافح وعياً زائفاً يعيد انتاج اشكال الاستبداد و الظلم الاجتماعي هو وعيه بالذات. وفي قراءة سريعة يبدو ان النظام ربح معركته الاولى وخسر الثانية ويبدو ان الشعب خسر على الجبهتين.
وانا ارى جرحى الثورة، الصدور العارية للحقيقة لا المجاز وضحايا اللامبالاة السافرة، أفكر في الشعب الذي يوظف اوهامه الخاصة لخدمة جلاديه .افكر في المفردات الواهمة التى احتلت مكان شعارات الثورة و أهدافها. أفكر مثلا في مفردة الكرامة التي حلت محل الفقر و الظلم .
ليست الكرامة قيمة نفسية ولا مطلقة، ليست جبيناً مرتفعاً او أنفاً أشم. ليست سمراء كبشرة أبناء هذه الأرض القاسية، ليست بنية كعيون اهلها ولا تولد معهم كذراع ثالث لامرئي يدفع عنهم الأذى. يولد البشر اغنياء او فقراء ومنذ الايام الاولى يهتدون الى حظهم من الكرامة، يحفظون نصيبهم من المهانة بقدر جلوس امهاتهم على رصيف الانتظار في مشفى يتسع للموت اكثر مما يتسع للحياة.
يلتقون بأنفسهم مهدورين وبلا كرامة كلما مر العمر، في المدارس العارية النوافذ، في الصفوف بلا كراس ولا مدرسين، في التعليم الذي يحدد مستوى جهل الناس. في الأغذية التالفة على شحتها، في لون الكاكي الذي يثير الرعب، في الأحقاد التي تتكاثر كالذباب على الجروح المفتوحة، في الزمن الذي لا يمر، في انعدام فرص الوظيفة، في الرواتب الضحلة، في البكاء الصامت كل يوم، وفي زهرة العمر التي تذبل قبل أوانها.
في المستشفيات والمحاكم واقسام الشرطة والجامعات والمبانى الحكومية والشوارع المحفرة والخدمات المجازية وبيوت الصفيح والقش ومجانية القتل والموت وغياب الحقوق والحريات ونفوذ الوجهات وصراع الديكة وفي كل تفصيل تتقاطع فيه حياة الفرد مع الدولة والمجتمع يجد اليمني نفسه بلا كرامة.
لا معنى اذا للحديث عن الكرامة بدلاً من الجوع. لا معنى لهذا “الفارق اللفظي” بين كون الانسان بلا طعام او ملبس او مسكن او عمل وبين كونه بلا كرامة. يحتاج اليمنيون ان يشعروا بالعار من طريقة حياتهم بدلا من الحزن.ينقصهم كلمات غاضبة عوضا عن العزاءات المشفقة او الكبرياء الزائفة.يلزمهم ان يعرفوا الى اي حد هم فقراء وبلا فرص وان نمط الحياة الآن لا يخلق الا واقع إذلالهم.عليهم ان يروا في مراياهم و في عيون اطفالهم حقيقتهم كفقراء بائسين بدلا من رؤية وهمهم: زيودا، شوافع، شماليين، جنوبيين، قبائل و متمدنين.
يحتاج اليمنيون إلى اتهام نخبهم، كل النخب السياسية والاجتماعية و الدينية والاقتصادية، يلزمهم أيضا رؤية أنفسهم كمتواطئين مع الجرائم اليومية التي ترتكب في حقهم. وأكثر من إي شيء ان يصبحوا كابوسا للطغيان والظلم اللذاين احالا حياتهم الى كابوس.
الكرامة مفردة وهمية تماما كالشعب ، الشعب الذي يؤيد، يبتهج، يثور، يغضب ثم يعود في اخر الليل الى بؤس الحياة تحت وطأة الحاجة. الشعب الذي يختصر في قدرته على الصراخ والركض يبدو هبة الجهل للمستبدين و الطغاة. ومرة اخرى دون ان ينتظم الناس في اشكال تعبر عن طبيعة مصالحهم الحياتية والمباشرة فإن مفردة الشعب تغدو مرادفا للا شيء.
يستلقي جرحى الثورة اليمنية على رصيف يسلط عليه بعض الضوء كتعبير امثل عن دولة لم يتغير انحيازها حين غيرت أشخاصها. وفوق مئات الارصفة المعتمة يستلقي جل الشعب اليمني ،ضحايا الاستبداد و التخلف والاهمال والنهب الممنهج للمال العام ونهب مؤسسات الدولة وثروات البلاد، ضحايا قوانين العمل المجحفة وانخفاض الأجور، ضحايا البطالة و تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية. ضحايا الوهم الذي يجعل هذا الشعب المسكون بهاجس التمرد الابدي يموت دائما في المكان الخطأ وفي معارك الآخرين.