كل يوم وكل ساعة تتفاقم المشاكل الاقتصادية ، ويتعقّد الواقع السياسي المأزوم ، وتزداد المسافة وتتوسع الهوة بين المجتمع وبين الواقع الجاثم على صدور الفقراء والمهمشين والشباب، والضارب بشعاراته في وسائل إعلام غيّرت جلدها ، ونبرة صوتها من الهتاف للدكتاتور المستبد إلى مبايعة المستبد العادل ، ترتسم في واقعنا صورتان متناقضتان بين واقع اسود مظلم يزداد ظلمات مع الأيام وانقضاء الساعات ، وبين خطابات وشعارات وأوهام شمولية تبشرنا بالمن والسلوى لو رضينا بالقضاء والقدر ، وخلعنا ثوب الثوري والمعارض والناقد. صارت هذه الخطابات الاسلاموية والشمولية مقارنة بالواقع المعاش ضربا من الخيال والتنجيم ، وبيع الوهم وصكوك الجنة والنار لمن آمن وصبر ، والويل والثبور لمن رفض وثار واعترض .
لم تمر الحركات الإسلامية بامتحان صعب مثل هذه الأيام التي تربّعت فيها كراسي الحكم في زمن الربيع العربي الذي وضعها وجها لوجه أمام تطلعات الشعوب ، ومطالب الشباب ومظالم المجتمع ، مما جرد جماعات الإسلام السياسي من النظرة القدسية لها ولأفعالها وخطاباتها ، واسقط تعاليها الفكري والسياسي ، وأخضعها لأحكام الطبيعة وقوانينها الدنيوية من قبول النقد والاعتراف بالآخر ، ومحاكمة السياسات والخطابات والشعارات ، ورفض الممارسات والأعمال والسلوكيات المبهمة ، ولو تلبست بلباس الدين ، وتغطت برداء الفضيلة والقداسة .
نمت وترعرعت وقويت الحركات الإسلامية تحت ظل المعارضة التي أطلقت فيها سيلا من التصريحات والاستنكار وتخوين الحكام والقوى الوطنية والجهات السياسية والدول الغربية ومنظماتها الدولية والقانونية والإنسانية ، وأصبحت شعاراتها الكبرى والفضفاضة غطاء مكّنها من تشويه الحكام السابقين ، وتحميل كافة القوى الوطنية الفشل والارتهان للغرب ، وتبني رفض الظلم والمطالبة بحياة كريمة . تلك الشعارات استعملها الإسلام السياسي رافعة سياسية ودينية تعطيه كل يوم رصيد مجانياً في قلوب المواطنين ، وتكسب الحركات الإسلامية شعبية اجتماعية جعلتها تتغلغل في مفاصل المجتمع والدولة، رغم حظرها من العمل الاجتماعي والسياسي ، وخاصة بأنها أضفت على خطابها الصبغة الدينية، فصار شعار « الإسلام هو الحل «الراية الكبرى التي انضوت تحتها كل الحركات الإسلامية على اختلاف مشاربها المذهبية والفكرية والسياسية، ولم تطالب الشعوب والمجتمعات تطبيق هذا الشعار وتجسيدها واقعا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا يحل مشاكل الأمة والمجتمع المتكاثرة، إلا بعد الربيع العربي ذي النكهة الاسلاموية ، فجوبهت هذه التساؤلات المشروعة والمعاشية والمفروضة من قبل مجموعات الإسلام السياسي بالهروب إلى شعار اكبر قائم على ركوب موجة تبني خطاب المؤامرة الغربية على الإسلام والإسلاميين ، والتشكيك في هوية ودين من يطالب بتحقيق هذه الشعارات العادلة ، وكان خطاب الثورة المضادة هو الأكثر بروزا وتربعا لخطابات الخلفاء الجدد من رؤساء الإسلام السياسي ! ، ونسي الحكام الجدد بان الناس كانوا يناصرونها في السابق أو يتغاضون عن شعاراتهم ؛ لكونهم في المعارضة ويتعرضون للاضطهاد والإقصاء نفسه من قبل الحكام والنخب الحاكمة ، ولم تدرك الحركات الإسلامية التباين الكبير بين السلطة والمعارضة ، فالإسلام السياسي الحاكم الآن ارتبط بالمواطن في مأكله ومشربه وملبسه وأمنه وحياته ومنشطه ومكرهه ، فإذا لم تتحقق مطالبه والشعارات التي ثار من اجلها، فانه سينتقد ويرفض ويثور ويكره ويعود من جديد للساحات رافعا مطلب الشعب يريد إسقاط النظام ، وربما يقاتل الشباب الثائر والمحبط حاكمه الإسلامي ، ويجنح للعنف ، وحينها لن تنفع الشعارات والخطابات التي تصفه بالكافر والفاسق والبلطجي والمتآمر على الإسلام ، لان من كان قبلهم من الحكام العرب وأساطير الدكتاتورية استعملوا هذه الشعارات والخطابات والسياسيات ، ففشلوا وطارت عروشهم ورؤسهم وأحزابهم .
يطوي الربيع العربي والواصلون الجدد من الإسلام السياسي عامهم الثاني ، ولا نكاد نلحظ بوادر أي مشروع إسلامي ذي صبغة اقتصادية وسياسية واجتماعية ، غير ما اعتدناه من شعارات وعبارات فضفاضة تلبس لباس الدين ، وتختم بشعار مشروع إسلامي ، وسبب الإخفاق بان الإسلام والقرآن الكريم كتاب ديني وعظي وإرشادي ، ليس مطالبا بإصلاح أمور الدنيا والعلم والسياسة والإعلام، فالإسلام دين ومبادئ تقوم على الحفاظ على الواجبات الست الكبرى، وتكريم الإنسان وإطلاق العنان لفكره وحريته ، فجعلت الحركات الإسلامية تتاجر بالدين وأحكامه لإغراض حزبية وسياسية للوصول للحكم والتمترس في السلطة تحت مسمى الدولة الدينية ، وتحقيق الخلافة الإسلامية ، دون أن يكون عندها أي تصور أو آلية علمية ومدروسة لتشييد مشروع إسلامي متكامل منسجم مع العصر ومستجيب للحداثة ويتكئ على رافعة اقتصادية تغيّر حياة المواطنين وتنتشلهم من فقرهم ، وترجع حقوقهم وتحقق مطالبهم ، فما نشهده اليوم من بعض الخطابات الإسلاموية والدعوات الدينية ، إنما تخدم أشخاصاً وأحزاباً وجماعات ، والإسلام والدين هو الخاسر الأكبر في هذه الصفقة الخاسرة .
المشروع الإسلامي الذي طالما سمعناه ما هو إلا مشروع غربي علماني ليبرالي حاول الإخوان ألباسه اللباس الديني في تشويه للدين والإسلام ؛ لأغراض حزبية وسياسية ، فالإسلام في « شكل الحكم « لا يقبل بحكم الأغلبية والاحتكام لحاكمية الشعب ، كما قدّمه لنا الخطاب الإسلامي السلفي والاخواني ، أما المشروع الإسلامي الاقتصادي فهو يقوم على الربا، واحتكار رؤوس الأموال ، وافقار الشعوب من خلال الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية والغربية، فما نعيشه من مشاريع إسلامية ، ما هي إلا مشاريع غربية ليبرالية تقوم على التوحش الرأسمالي ، وعلى السير السريع في مشروع النيولبرالية العلمانية ؟! .