قبل الإجابة.. ينبغي أن نحدد من جديد وللمرة الألف بعد المائة حلم الشهيد.. شهيد ثورة 25 يناير المجيدة والذي لايزال يسقط في سبيلها شهداء جدد من جميع الأجيال والأعمار حتى يومنا هذا.. وكأن الثورة تجدد نفسها بدماء أبنائها البررة، أمام من يحاولون أن يخطفوها ويغيروا مجراها، ومسارها لتعدد بنا (القهقهري) إلي إعادة انتاج العهد البائد..
فبدلًا من الاستبداد السياسي.. نصطدم الآن وجها لوجه بالاستبداد الساسي.
وها هو (جيكا) 17 عاما.. أو (جابر صلاح).. و(إسلام مسعود) 15 عاما و(أحمد نجيب) (17 عاما) و(فتحي غريب) (60عاما) يسقطون كزخات المطر المدبب والدامي على قلوب المصريين علهم يثوبون إلي وعي جمعي شامل مانع ومتين.. لرأي ذلك الصدع الذي يكاد أن يشطر مصر والمصريين شطرين، وكأننا بتنا وأصبحنا نواجه تسونامي (طوفان) من صنع البشر لا من قبل الطبيعة، من نصع أنصاف الآلهة، لا الإله الواحد الأحد.. وهو يحاول أن يعصف بالإرادة الحرة لغالبية الشعب المصري الذي يحلم بتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية والعدل الاجتماعي وهو يتمسك بمبادئ الثورة المجيدة.
إن من يتواجدون في (ميدان التحرير) بل ميادين التحرير على مستوى جمهورية مصر العربية يصدون الآذي عن مصر والمصريين.. ذلك الأذي المتمثل في الإعلان الدستوري الذي ينال من أهداف الثورة وحلم الشهيد، وفي الوقت نفسه يحصن قرارات رئيس الجمهورية كما لو كان نصف إله.. لا يأتيه الباطل من الأمام ولا من الخلف!! وإذا أتاه فهو محصن لاتستطيع قوة في الأرض أن تعترض مشيئته ورغباته وأوامره وقراراته وأحكامه العليا!! وقد بتنا وأصبحنا أمام مساومة واضحة.. إن هذا الإعلان الدستوري لن ينقشع عن أنفسنا وسمائنا إلا بعد أن يذعن الشعب لإقرار (الدستور) الذي خاصمه غالبية لايمكن الاستهانة بها، إن التوافق يغيب عن الدستور كما يغيب عن السلطة القضائية التي انتفضت أمام (الإعلان) ولم تتراجع إلا بسقوطه!
إنني أتوقف أمام حلم الشهيد.. أمام وصية (جيكا) الكاشفة.. والتي كتبها قبل أن ينال الشهادة «ده بإذن الله آخر بوست هكتبه لحد ما ارجع بكره من شارع عيون الحرية أنا نازل عشان دم إخواتنا وعشان الثورة نازل عشان أعز أصحابي (أسامة) ،(أحمد طه) اللي شيلته بإديا.. نازل عشان (حرارة) نازل عشان كل الشهداء والمصابين و(حموطه) و(أحمد يوسف) أجدع أصحاب اللي راحوا في بورسعيد.. ولو مارجعتش ماليش غير طلب واحد أن الناس تكمل الثورة وتجيب حقنا».
لعل المخيف والمدهش معآ أن (جيكا) كان من أشد المتحمسين والمدافعين عن د.مرسي ضد الفريق أحمد شفيق، في انتخابات الرئاسة ثم إذا به يتحول إلى النقيض بسرعة البرق أي في أقل من (5 أشهر) فهل سأل أحد من الجماعة: لماذا هذا التحول؟ وإلى أي مدى يظهر الخدعة التي انطلت على فئات كثيرة وعديدة من المصريين؟
إن وصية (جيكا) تشعل في ضميري وروحي من جديد وصية شهيد أكبر منه سنا أقدم منه عهدا، وهو ينتمي إلى ما سمي بجيل أكتوبر.. إنه شقيقي الرائد (صلاح المرشدي) 26 عاما وقد أودع شهادته الشفهية أمانة في عنق أحد أصدقائي قبل ذهابه مباشرة للميدان.. والذي بدوره قالها لي بعد سنوات عدة من الشهادة في (18 أكتوبر 1973) إذ قال: «إنني أعلم أني ذاهب إلي سيناء ولن أعود.. لا أخشي الموت فهو حق علينا نحن فداء مصر.. عازمين على تطهير الأرض من العدو الإسرائيلي، واسترداد سيناء حرة أبية.. لكن ما يحزنني.. أن ثمار التضحيات وما سندفعه من دم لن يجنيه أهالينا البسطاء من الشعب المصري العظيم.. وإنما ستجنيه حفنة دون سواها ممن يجلسون في السلطة، في البروج المشيدة، وفي الأماكن الفخمة المكيفة!».
لكأن حلم الشهداء.. حلم واحد متصل الحلقات.. الواحد يؤدي إلى الآخر.. حلم يبحث عن العدل الاجتماعي، وعن العيش، والحرية والكرامة الإنسانية للجميع.. لا لفئة دون سواها، أو جماعة دون أخري.. إنه حلم لأجيال متعاقبة.. مضمخ بالدم وقد تركوا لنا الوصية المعلنة.. وأستأمنونا علي تحقيقها.
وها هو (ميدان التحرير) يستجيب للوصية وللنداء التاريخي البعيد منه والقريب.. وهو يطالب بإسقاط (الإعلان الدستور) وبعدم الإذعان (للدستور) المسلوق!!
وعلى الضفاف الأخرى.. أي في المقابل هناك (الإخوان) ومن تبعهم من أطياف تيار الإسلام السياسي.. وهم يحاولون أن يشكلوا الحلم والوصية على هواهم الخاص، وهويتهم في تفسيرات تتحدي التوافق العام.. لأنهم ولأول مرة منذ إنشاء الجماعة في عام 1928 يجلسون على سدة الحكم.. ولذلك بدت الرغبة في الاستحواذ عارمة، والرغبة في السطوة علي المؤسسات والدستور عارمة.. وكأنهم يسارعون عقارب الساعة في السرعة والقفز والقنص!!
وعندما تسألهم كيف السبيل؟ الإجابة: فلتكن الديكتاتورية المؤقتة كما يدعون في الإعلان الدستوري الذي يهيأ لهم من خلاله.. أن الأرض ستمهد، ويتم لهم المقام لكن فاتهم في ذلك.. أن ذاك الطريق يقوم علي تفتيت المجتمع.. وجعله جزرا متنافرة.. وأحزابا متحاربة، وطوائف متصارعة إنهم كمن يقومون بشق بطن مصر لتتناثر أشلاؤها في الاتجاهات الأربع.. وكأنهم يعيدون إنتاج الأسطورة القديمة لإيزيس (الأم) وأوزوريس (الخير) وست (الشر) بعد أن أعادوا انتاج الاستبداد السياسي الديني!!
إن مصر يا سادة مهددة بالتقطيع والتمزيق.. كما رأيناها في صفحة التاريخ القديم، تاريخ الفراعنة الذي يبعدنا عنه آلاف السنين وقبل نزول الرسالات السماوية مجتمعة.. فهل يعيد التاريخ نفسه.. وتفتح مصر بابها للانشقاق والترويع، وفرقاء علي شاكلته ما نراه في لبنان من فريق آذار 1 يصارع فريق آذار 2؟ هل لبننا قضيتنا الوطنية والسياسية.. وذهبت العقول أدراج الرياح؟!!
إن خطاب د.مرسي الذي انتظره الناس في مساء الخميس.. لم يأت بجديد يذكر إنه خطاب مراوغ.. في حده الأدني يتهم النخب السياسية والوطنية الأخري مع الشباب في ميدان التحرير بالبله والعته!! إنه يأتي كمن يخطب في كوكب آخر.. لواقع آخر.. ولمجتمع آمن ومستقر!! أهو التعالي والتكبر؟ أهو التغافل عما يعتل ويشقق الأرض والبشر والشجر؟ أم أنه الإرهاص بالقبضة الحديدية الباطشة علي (حلم الشهيد) ووصيته وعلي المحتجين في ميادين الحرية والتحرير!!