وكان الثوار مدركين تماما أن بريطانيا تنوي تسليم مفتاح الاستقلال إلى «حكومة الاتحاد» الموالية للاستعمار آنذاك.. لذا سعروا من نيرانهم ثم أججوا من سعيرهم..
غير أن الاستقلال لا يوهب والسيادة لا تعطى والحرية لا تمنح .. بل تنتزع الشعوب استقلالها وسيادتها وحريتها بإرادتها وتضحياتها.. لذا، كان يوم 30 نوفمبر 1967م - وليس 1968م - هو اليوم الذي وعدت عدن لندن بالسقوط ، وليس العكس!
وقبل ذلك اليوم الأغر بيومين فقط - أي يوم 28 - وقف السير همفري تريفيليان «آخر مندوب سام بريطاني في عدن» على سلم الطائرة التي ستقله إلى لندن ، بينما عزفت أوركسترا حاملة الطائرات «ايجل» لحنا جنائزيا لم تكن تتصور أنها ستعزفه يوما في هذه المدينة!
وفي الثالثة عصرا من اليوم التالي 29 نوفمبر دلف الكولونيل داي مورجان -الذي كان آخر ضابط بريطاني يغادر المدينة - إلى متن آخر طائرة بريطانية أقلعت من مطار المدينة إلى غير رجعة.. وحتى منتصف ليل اليوم ذاته كان الوجود الاستعماري البريطاني في اليمن يتمثل - فقط - في حاملة الطائرات «ألبيون» التي كانت لا تزال موجودة في المياه الإقليمية اليمنية مع بعض القطع التابعة للبحرية الملكية البريطانية .. وبعد منتصف الليل - عند اللحظات الأولى لفجر الثلاثين - ارتفع فوق مدينة عدن الباسلة علم الاستقلال المجيد..
هذا الاستقلال الذي لا أدري لماذا يصر البعض - حتى هذه اللحظة!! - على الانتقاص من قيمته ودلالته في الوعي والوجدان، وفي الأرض والإنسان، وفي التاريخ والجغرافيا، وفي شتى معاني الحياة اليمانية المتجددة على نحو أسطوري منذ ذلك اليوم.
فقد راحت الأحقاد الشخصية والصراعات الجبهوية والمصالح الأسرية تفعل فعلها في الموقف من هذا الانتصار العظيم الذي شهدت به وله بريطانيا ذاتها التي اعترف أحد قادتها بانبهاره بالقدرات السياسية والتنظيمية للوفد اليمني الذي تفاوض مع الجانب البريطاني - في سويسرا - على الاستقلال.. ومصدر هذا الانبهار أن الانجليز ما كانوا ليتصوروا أن حفنة من الشباب صغار السن، حديثي التجربة ومحدودي الخبرة بأمور التفاوض السياسي والدبلوماسي قادرة على إفحام سادة السياسة وكهنة الدبلوماسية في العالم!!
إنه استقلال تام، لا هو ضائع ولا ناقص.. ولا هو مجرد جلاء .. يا هؤلاء!!..