كان المساء يزحف فوق بقايا لهيب النهار ، والهواء المالح محمولاً على الطرقات وسطوح المنازل ، فعدن حفيدة الشموس الأولى منذ ألف صيف ، وزنبقة البحور من قبل أن تستتب المرافئ الى جوار برها.
هذه المدينة تتقدم نحوي ليذهب عميقاً نصل سهمها إلى منتهى القلب ، ويصبح العقل ذائباً في زبد الذكريات . عدن خلاصة الدنيا تحيط بي الآن من كل الجهات ، ترد لي وجهي وأغصاني الصغيرة ، وأرى ذلك العمر مازال ساجداً تحت رموشها الزرقاء ، فلكم صرت بعدها (يباساً أو بقايا حجر ) .
لم أحس في الدقائق الأولى انكسارات الزمن وعتمات التراب، فلم يعبر شيء في وجهي غير نثر المرايا والعبير المختبئ خلف أنفاس الفل ، ولم تجاهرني الأشياء في منتصف المدينة بأن وهج اليواقيت واللازورد قد اختنق في وحل الغروب ، وأن النسيم قد (طلق الأقحوان) .
ما كنت أقوى على التفكير بأن المدينة لم تعد تلك التي غمست حلمتها في حليب البراءة .. وكانت تصحو على مرمر الصباح جسداً صاعداً وموجاً يحف نسيم الأفق البعيد ، وحين تنام ينكمش الكون هانئاً في صينية بنفسج .
لكأن قلبي لا يصدق ما تراه مقلتاي.
يشتد الشقاق بين الذكريات التي تتهافت كالعصافير الصغيرة وبين المشهد الذي أخذت فيه الاشياء شكلاً مغايراً .
تمر الدقائق والطرقات ويشتعل الفصام ، والمساء يذوب في نسيج الرطوبة ، ويلوح من مكان ما في أقطار النفس حزن لف ضباب النشوة.
لا بأس يا سيدة الحقائق ! فعلى ضواحيك ومداخلك وفرة في نقاط التفتيش ، وفيك شحة في الحياة المدنية الطبيعية ، مصابة بالدماء والفقر والمجاعة الكهربائية وهناك نضوب للفرح .. فالذنوب التي وقعت عليك تفوق طاقة الغفران عندك.
إقتربت من فندق (الميركيور) في طريقي لحضور ندوة حول (الحوار الجنوبي الذي نريد )، وصلته متاخراً قليلاً بعد أن إستنزفني اختلاط المشاعر وكدت أغرق في أواسط موجها ، جلست أمام وجوه كثيرة لا أعرف منها سوى القليل جداً.
إستمعت الى كلمة صديقي د/ سعيد الجريري في المستهل ، أخذني بلغته الجديدة حديث جامع أخرج كل الدلالات من صلب لغة مثقف أكاديمي مقتدر .
إلا انه لم يدرك حين اختتم حديث الافتتاح واهداني كتاب الشعر الذي ألفه بالعامية الحضرمية، أنه قد وضعني على مفترق حاد بين مجريات الندوة والقصيدة .
فالقصيدة تسبقني دائماً وتحدد الارض التي أقف عليها.
تصفحت الكتاب ( بخيتة ومبخوت) ، غرقت في جمال الشعر العامي منذ أول وهلة وفي مفردات اللهجة الحضرمية البالغة الثراء والخصوبة والغنيه بالحكم والامثال ، فوجدت نفسي أمام تجربة فريدة تنهل من منابع الأصالة وتعيد صياغتها بروح حداثية تحمل مدلولات فنية ، اجتماعية وسياسية. ومع عجزي عن فهم موسوعة العامية الحضرمية الا أن الموسيقى التي ألفْناها في الشعر الحضرمي كانت هنا أكثر سحراً ، لكأن حبر الكلمات مصنوع من مقامات لحن رخيم .
هكذا وجدت نفسي منشقاً بشكل إنقلابي عن العصف السياسي وكان علي أن اسمع حيناً عبارات المتحدثين الغليظة وأصغي (لرقرقة) القصائد التي شاغلت الحاسة الغامضة في الوجدان .
ومع أن الندوة أخذت طابعاً مهنياً وكانت تدريباً حقيقياً لتنمية فكر الحوار الذي لم نألفه، الا انني اصبحت بين هلالي (الاستماع والقراءة) . وحين تتداخل في منحنيات الادراك ما يتردد من الحاضرين وما أقرأ ، كنت أحس بان اللفظ السياسي الخشن بطبيعته يشوي رحيق الزهر الطالع من متعة الشعر وكانت بعض فونولوجيا اللهجة السياسية السائدة كالصهيل الذي يشرخ صلاة البنفسج وينتهك (بسملة الندى ) .. فالسياسي ينتهي عند مخارج اللفظ بينما الشاعر يبدأ فضاءه خلف العالم الحسي .
لكم نحن بأمس الحاجة الى خطاب المثقف كاضافة نوعية تنقذنا من الغرق في تفاصيل الخطبة القديمة واصطلاحاتها المستهلكة.
بعد منتصف تلك الليلة في العاشر من رمضان أدركني التعب الشديد بفعل السفر والأرق ، ودون أن أودع أحداً خرجت من الندوة الغزيرة برشاقة مذهلة حاملاً معي كتاب الشعر.
خلف الميركيور كانت عدن مكتظة بالظلام تتصاعد أنفاسها كأبخرة ساخنة تنذر بصرخة ( فولكانو) . مشيت وحيداً دون ملامح كوعاء ممتلئ بالرماد .
تذكرت عدن كيف كانت تفوح منها السكينة وكنا نحسب أن العمر لن ينتهي فيها وسنبقى أطفالاً أو شباباً نكتب الشعر للقمر الفضي ولموجة عابرة فوق منعطف الجسد.
عدن أجمل مدينة يديرها كوكب الارض نحو الشمس ، يسودها الآن ظلام وصيف جارح كأنه يسكب صهارة (البازلت) على الأرواح المنهكة ... وهناك شبح (حسن الصباح) وهو يوزع جنده على المرتفعات ، بينما بقي ( الخيام) وحيداً يعاقر نبيذه السمر قندي، يدون رباعياته ويحرس النجوم بمرصده العتيق.
هكذا رأيت كل شيء خارج الميركيور ولم أعد أتذكر كيف تصادمت مشاعر الحزن والخوف على عدن مع كلمات درويش:
( أحمد الآن الرهينة
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه لتقتله ....)
والحقيقة أنَّ المدينة لم تترك شوارعها ولم تأت لتقتل أحداً ، لكن العشق والموت حين يتشاطآن يزداد الحب كثافةً لابساً جلباباً سميكاً من الخوف ، ويتحول القلب الى صفافة من الدمع.
بعد يوم ومساءين تركت عدن وفي فمي بعض وداعيتي القديمة الحزينة:
تركت المدى لاشتعال
النوارس ،
لترحل خارج هذا الزمان
وتطفئ خلفي عيون
الصبايا..
وداعاً عدن !
والمساءات تدخل في
صمتها كالجواري ..
تراقب آخر هذا الرحيل
وتنثر عمري هناك
شظايا....