بعد أكثر من ثمانين عاماً من العمل الدعوي والسري والدموي المسلح مع ما ترافق معه من خوض في غمار الساحات السياسية تحت رأية أكثر من قراءة لهذا المرشد أو ذلك وتحت شعارات تراوحت بين (الإسلام هو الحل) و(العروة الوثقى) ومما لا شك فيه أن طول الفترة التي نتحدث عنها وكثرة القراءات المحلية والإقليمية والدولية قد أربكت المسار وأدخلته في صراعات مريرة تارة جدلية حادة تكفر المخالفين أو جمود فكري قاد لمعارك سالت فيها دماء وأزهقت أرواح وكبلت مفاعيل مجتمعية داخل قراءات أدت إما إلى إقصاء المخالفين أو اتهام من اجتهد خارج قراءاتهم بالكفر والزندقة، بينما بررت بعض القراءات لمجتهدين دعم مسارات التحالفات مع نظم الحكم في أكثر من بلد عربي رغم عدم شرعية تلك الأنظمة باعتبارها أنظمة قمعية تسلطية.
وكانت خطورة مثل هذا الاتجاه تمكينها تلك الأنظمة بالتمادي في قمع معارضيها مسنودة بغطاء ديني، ما يعني أن اللجوء إلى استخدام الدين وإقحامه في مجال السياسة خدمة يؤول لأجلها النص الديني وإنما يصب في دعم الأنظمة ويؤدي إلى خلط الأمور التي تدخل المجتمعات في صراعات كان ولا يزال من المفترض ألا يجير النص أو يؤول تأويلاً يخدم الحكام وسياساتهم التي تتعارض نتائجها مع مصالح غالبية الناس الذين يرون ويعتقدون بالدور الإيجابي الذي يلعبه.
الخروج على ولي الأمر:
مبدأ الخروج على ولي الأمر من عدمه سلاح خطير ذو حدين إن ذهبت بشأنه الإرادات والقراءات لتبرير عدم الخروج على ولي الأمر في حالة الهبات والثورات الشعبية التي وجدت في تناقضات مصالحها العليا على مستوى الأمة ما يجيز الخروج على الحاكم والثورة ضده وبعض القراءات التي تطوع النصوص تطويعاً معيباً يمثل كارثة وتناقضاً يبين إلى أي مدى تكون مضرة بإقحام الدين في السياسة إقحاماً يضر بمصالح العامة وتمثل إسناداً لفساد الأنظمة وطغيانها إذ في كل الحالات لا ينبغي إغفال الجانب المضيء للإسلام والشرع الإسلامي في مقاومة المفاسد، حيث درء المفاسد مقدم على جلب المصالح إلى جانب أن الشرع دائماً ما يكون حيث توجد المصلحة العامة للناس.
وعليه يصعب على المرء أن يقبل بتأويل النص القائل إن جنحوا للسلم فاجنح لها ليبرر ذلك التأويل التطبيع والتعاون مع العدو الصهيوني والقبول به ولا يمكن قبول أن تطلق الفتاوى المستندة بغير وجه حق لكي يبرر للحاكم ما اقترفه من مظالم خلال حرب 94م ضد شعبنا في الجنوب، ولا يمكن فهم التحالفات التي نسجتها أطراف من الإسلام السياسي مع الراحل السادات بحجة أنه يطلق على ذاته (الرئيس المؤمن) كمبرر يمنحه شرعية شن حروبه على أطياف المعارضة التي تعارض برامجه ومشاريعه السياسية والاقتصادية، ولا يتعلق نضالها بإسلامه وإيمانه، إذ أن تلك علاقة بين العبد وربه وهي نفس الحجة التي نسوقها لعلاقة الإسلام السياسي مع العديد من أنظمة القمع والفساد في بلادنا وغيرها.
تاريخ حافل:
إذا كان ما اشرنا إليه وخصوصاً في بلادنا ونحن نمر بفترة عصيبة من أخطر فترات تاريخنا السياسي فقد يكون من المناسب أن نتوجه لبعض القيادات الطيبة في العمل الإسلامي داخل منظومة الإسلام السياسي لتبادر إلى إيقاف الهرولة نحو إصدار المزيد من الفتاوى الدينية التي تذكي الصراع وتثير نيران العداوة وتؤجج لهيباً لا يزال يشتعل في صدور الكثير من أبناء الجنوب.
الوقت يحتاج إلى تجلي الصورة الخلاقة لسماحة الإسلام، يحتاج إلى تقديم التأويل النافع للنصوص التي تضمد الجراح وتفسح المجالات نحو مصالحة وطنية حقيقية تطفئ نيران ولهيب حرب 94م وتداعياتها وعبر رسائل تتضمن الكثير مما شوهته بعض المسائل التي تتلحف برداء الفتاوى الضارة.
وقد يترافق مع ذلك ما نشاهده من فرحة عارمة عبرت عنها الكثير من مظاهر الاحتفاء بانتصار محمد مرسي وهو أمر نحتفي به لأنه أتى تعبيراً عن إدارة شعبية فارقة غادرت معها نهائياً مواطن النظام السابق وأرست بوقفتها التاريخية مشروعاً آخر يبحث عن مشروع وطني متكامل يشارك فيه الجميع ولا يتسيد مشهده بقايا النظام السابق أو حملة المشاعل التي لا نريد لها أن توجه قراءة النصوص إلى قراءات خاطئة.
وقد لاحت تباشير ذلك في التوجه العقلاني الذي بدأت شمسه تسطع في تخلي الرئيس المنتخب عن عضويته في حزب الحرية والعدالة ليصبح رئيساً للشعب المصري كله، وتلك رسالة جديدة نأمل من كل القوى وفي المقدمة منها قوى الإسلام المستنير التي يروج لها لكي تتسلم مقاليد السلطة في أكثر من بلد عربي لتعيد حساباتها وفق قراءات يشارك فيها الجميع.
لأن مثل تلك القراءات المتعددة والمتباينة سيعكس توضيح الصورة التي يشترك الجميع في صياغتها انطلاقا لمرحلة مقبلة تكتنفها الكثير من الصعوبات والعراقيل ولا يقوى ولا يستطيع أي فريق سياسي منفرداً النجاح مهما أوتي من قوة وإمكانات في حل وحسم تلك المعضلات.
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الشراكة المجتمعية بطابعها المجتمعي والسياسي ستحول دون تسليم شؤون البلد وعلاقته الداخلية والخارجية لقوى الهيمنة الإقليمية والدولية التي لعبت ولا تزال تلعب أدواراً مرسومة في التفتيت الداخلي للكيانات الوطنية أو ما تبقى منها وإخضاعها لصراعات جانبية ذات طابع طائفي، مذهبي، مناطقي و إثني، تفتيت مقصود منه تغييب الجانب الوطني وعرقلة قدراته وعدم تمكين اعتلاء الواجهة للمواجهة الحقيقية التي ينبغي أن توجه نحوها معالم الصراع، صراع الإرادات الوطنية الباحثة عن دولة النظام والقانون والعيش المشترك والتنمية الحقيقية والمشاركة الفاعلة للجميع بضمانة دستور يحترم ومؤسسات تشكل سياجاً وطنياً يحول دون توجيه أنظار من يجري طردهم وتجريدهم من حقوقهم السياسية والاقتصادية إلى الميادين العصبوية تحت الوطنية.
تلك هي الرسالة التي ينبغي فهمها وإعلاء قيمها خلال المرحلة التي تحاول مشاريع كونية ترتيب أوضاع المنطقة تحت شعار محاربة الإرهاب المتطرف إسلامياً والمجيء بما يسمى بمشروع الإسلام المستنير كبديل تاريخي عن تلك الأنظمة التي دعمها النظام العالمي دعماً طويلاً قاد لكارثة 11 سبتمبر 2001م.
نريد إسلاماً مستنيراً مبنياً على ما أشرنا إليه وليس كما يراه الكاتب البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية الصهيوني الهوى برنار لويس المنظر والمبشر بحكم الإسلام المستنير للمنطقة كبديل تاريخي عن الإسلام السلفي الراكد فقد قرؤوا فيه انقلاب السحر على الساحر.
نحن أمام حقبة جديدة، نأمل نجاح توجهها الوطني النهضوي في مصر ليصنع تجربة تعم تجربة ديمقراطية حقيقية فما نراه في اليمن قد يختلف عما هو جارٍ أو سيجري في مصر وما نراه في سوريا إنما يصب في خانة إضعاف دور مصر كقوة في المنطقة تتأثر سلباً بإضعاف سوريا وأيلولة الأمور في السعودية إلى مدارج لم تتضح معالمها بعد في ظل تغول دور تركي يسعى وإسرائيلي يتحفز وإيراني يمتلك رؤية أبعد مما صوره لنا الغرب والأمريكان وبعض الاجتهادات السلفية الضارة عن بزوغ عهد الصراع السني/ الشيعي، وتلك فرية تدخل في عالم الفتاوى الضارة ولا تدخل في حقائب عالم السياسات التي ينبغي في كل الأحوال أن نغوص في مياهها حتى نفرز بين الجواهر وما يطفو على السطح من جيف ترمي لنا ولشعوبنا مضرات الوقوع في حبائل الصراعات المذهبية والمعارك العصبوية وترك مجالات العلم والتنمية وحقوق الإنسان للآخرين الذين سبقونا وتركونا نلهث في ميادين الفقر والبطالة والمشاريع الصغيرة التي تختلط فيها الأوراق الوطنية بالأفكار التي تدمر أكثر ما تبني وتلك رسالة نبعثها لمن سيقودون السفينة لاحقاً.
معالم على الطريق:
إذا كانت أفكار برنار لويس الصهيونية وكوندا ليزا رايس أحد أعمدة اليمين المحافظ المشبع بهوسه وهلوسته الدينية ذات الطابع الصهيوني المعمداني المدافع الخفي حيناً والمكشوف دوماً عن السيطرة والهيمنة المالية على المستوى الدولي بطابعها الاوليجاركي وما تقيأت به من مخاطر هزت عرش الاقتصاد العالمي وأطلقت من الشعارات ما يثير الحماس بشأن إعادة ترتيب أوضاع العالم مجدداً وبالذات أوضاع ما سموه بالشرق الأوسط الجديد وبالقلب منه المنطقة العربية وبقيادة الإسلام المستنير المطالب بتحقيق برامج المقرطة والحكم الرشيد في مندوحة عولمة مجحفة تحاصر طموحات الشعوب في تطلعاتها الاقتصادية المشروعة وتضرب مشاريعها الثورية بمقتل عبر تدخلات هنا وهناك.
ولعل أخطر ما نلاحظه في منطقتنا العربية تغول الدور الأمريكي المتدخل حتى الثمالة في أكثر من واقع للثورات العربية التي تغنى ولا يزال يتغنى بها تحت شعار (ثورات الربيع العربي) ثورات تشكل قياداتها اللاحقة التي قفزت على قطار الثورات ببراشوت سماوي أجهض الفعل الثوري وادخله في حبائل الفعل والنسق السياسي تحسباً لمعارك لم تسعفها مكونات توازن القوى، مع أن السلاح الذي لم يكن يعمل حسابه من قبل أي طرف، السلاح النووي الشبابي الشعبي السلمي قد جرى اختطافه وتسلمه لكهنة المعبد القديم.
وهنا يطيب لنا ونحن نشهد تتابع الفصول أن نؤكد:
1. إن الصراع في المنطقة سيظل صراعاً بين قوى التسلط والقمع ولن يحجب حجم الصراع لحن التسويات التي تشير إلى بزوغ عهد جديد تقوده قوى الإسلام المستنيرة لأن تلك القوى قد أدركت أو نريد لها أن تدرك أن الأساس هو الصراع العربي الصهيوني ولن تنطلي على الجماهير فرضية تحويل الخطوط نحو صراعات مذهبية أو شعارات يجري تسويقها لمفلسين من الصراع السني الشيعي وخطورته على تطور المنطقة.
2. لا خلاص لشعوب المنطقة دون تمكننا من المشاركة الحقيقية في السلطة والثروة وعبر إحداث ثورة حقيقية في التعليم والثقافة والتنمية المستدامة.
3. لا بديل عن المضي قدماً وبوجود الإسلام المستنير عن النضال بكل السبل لإرساء قواعد الديمقراطية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ، دولة المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان.
4. إن المنطقة العربية زاخرة بالإمكانات موقعاً وموارد / في حاجة إلى تمكين العقل العربي واحترام مكانته ليسهم بعيداًً عن الممارسات التي قادتنا إلى مستنقعات الجهالة والفقر والبطالة والصراعات على حواف هذه المستنقعات.
إن مستقبل المنطقة يبشر بالخير إذا كان العقل قائدا وموجهاً ومستشاراً في صبحنا والمساء ، عقل نقدر من خلاله أن ننتج تجربة تضاهي تجربة رجب طيب أردوغان الحالم بالعودة إلى أحضان العثمانلي الذي ذهب زمانه، كما إننا إذا تركنا واخترنا وأقرينا بحق الاختيار للشعوب من صنع تجربة لا تقل إبهاراً عن تجربة مهاتير محمد تلك أمور نستطيع الوصول إليها متى ما كان الجميع شركاء في الوطن أخوان فيه شركاء في همومه ومشاكله وخيراته ، فالدين لله والوطن أو الأوطان للجميع ثروة وسلطة بعيداً عن التقول الذي دفعنا ثمنه فادحاً بأن فريقاً بعينه يملك العصا السحرية لحل مشاكل الناس حتى تحت الشعار الأخاذ (الإسلام هو الحل) الذي يرفعه أو رفعه بعض من الإخوان المسلمين.
وهنا نقول: كلنا مسلمون وليس المسلمون من هم فقط أعضاء في جماعة (الإخوان المسلمين) وخيراًُ فعل محمد مرسي حين استقال من حزب الإخوان المسلمين ليصبح رئيسا لكل المصريين وهو إن مر نأمله لمن هم في الطريق مثله.