دائرة الطباشير القوقازية هي من الروائع والتحف المسرحية الملحمية التي كتبها وصاغها الكاتب الألماني المبدع برتولد بريخت وهي من الأعمال الرائدة التي تعالج موضوع الإيثار والتضحية والفداء من خلال الروح المضحية التي تخلق من رحم الثورات الإنسانية العظيمة التي قادتها نماذج بشرية قلما يجود الزمان بمثلها إلا فيما ندر.
لماذا دائرة الطباشير: وأنا أجول بخاطري داخل جحيم أزمتنا اليمنية الطاحنة التي تزداد تعقداً يوماً بعد يوم، أطلقت لعقلي العنان مفكراً بماهية العوامل التي يمكنها أن تساعد هذا البلد المنكوب وأهله للخروج من الدوامة التي يدورون حولها وبداخلها.
قلت لنفسي، بمن نستعين، بالله الذي لا يستعان بغيره ووجدت أن الله لا يساعد من لا يساعد نفسه وإن كان الأمر كذلك فهل الاستعانة بالشيطان واردة .. هنا تقف أمامي مأساة فاوست الذي باع نفسه للشيطان مقابل متع وأشياء أخرى ليفقد بعد ذلك كل شيء، هل استعين بالصبر، بالقلق بالضجر بالعودة للعقل تمثلاً للقول الحليم، اعقلها وتوكل، كل ذلك الاضطراب والقلق القاتل إن هو إلا تعبير عن حالة البحث عن إيجاد مخرج لما نحن فيه من أزمة قاتلة وليست طاحنة فقط، جال بخاطري هاجس دفعني الفضول فيه لاستطلع رأي الكاتب الألماني المبدع بريخت وهل يمكنه لو كان موجوداً بيننا أن نحتكم إليه ليحكم بيننا بذات الطريقة التي حكم فيها بين امرأتين ادعتا بنوة أحد الأطفال وكل منهما تصرخ وتولول وتحلف بالله واللات والعزى وبالمسيح والإنجيل وبماركس ولينين وافروديت والاسكندر المقدوني وذي القرنين وبمريدي المسيح وبالرسل أجمعين وهو الأمر الذي وضع القاضي الذي نجده في العمل المسرحي بمثابة الرب الذي سيعيد تشكيل الكون من خلال حكم عادل، القاضي هنا سيحكم بين أرواح تتصارع، سيضع نصاباً يفصل بين الحق والباطل بين الخير والشر والقاضي كان يدرك كما يقال بأن من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين، القاضي كان يدرك أن العالم بدون عدل عالم باطل، فاسد لا تستقيم مداميكه ولا تقوم لقواعده أسس متينة.
وكانت المفاجأة التي أذهلت الجميع حين رسم دائرة طباشيرية وقرر حسماً للخلاف بين ادعاء المرأتين أن يشق الطفل إلى نصفين داخل الدائرة ويعطي إحداهما نصفاً ونصفاً للأخرى، كان يبحث عن الحق من المشاعر الحقيقية، عن الأمومة الصادقة، عن التضحية، عن التضحية بالذات، عن كذب الشيطان، وبانت الحقيقة حين صرخت الأم الحقيقية راجية القاضي أن لا يشق جسد الطفل ولتأخذ المدعية الطفل حتى يظل حياً بدلاً من تمزيقه والقاضي أدرك بفراسة القاضي وعقلانيته وبعد نظرة وعدله أي المرأتين أحق بالطفل، أعاد الطفل إلى أمه الحقيقية وترك الأخرى تعض أناملها ويأكلها الغل والحقد جراء ادعاءاتها الكاذبة.
في دائرة الطباشير القوقازية، كان القاضي حازماً وعادلاً وحكيماً وكان الواقع يستوعب حكم القانون ويسعى إليه فماذا نقول عن دائرة الطباشير اليمنية التي ولجناها يوم رسمنا بالأردن دائرة للطباشير اليمنية وأصدرنا وثيقة العهد والاتفاق التي شكلت حكماً يحقق العدل بأدنى مستوياته لكن الوسط الذي تلقف الحكم لم يكن يؤمن لا بالقاضي ولا بالحكم ومن هنا كانت المأساة.
الآن وقد افترقت بنا السبل هل نستطيع مرة أخرى أن نرسم دائرة للطباشير اليمنية على غرار دائرة الطباشير القوقازية؟ اعتقد أن ذلك ممكن ولكن الكثير من الفرقاء سيعترضون على أن تكون الدائرة هذه المرة من إنتاج ذي صلة ببرتولد بريخت الاشتراكي الميول، ما علينا حيث سنأخذ على سبيل المقاربة دائرة الطباشير على أنها مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي ترعى اعماله قوى اقليمية ودولية ومحلية بنكهة أمريكية حتى نزيل شبهة الاشتراكية واليسارية عن اعمال هذه الدائرة.
الأمر هنا يتطلب عدة اشتراطات حتى تكون دائرة الطباشير اليمنية / مؤتمر الحوار الوطني مخرجاً من الأزمة القاتلة التي نمر بها وتماثل في خطورتها تلك اللحظة التي كان من الممكن أن يشق الطفل المتنازع عليه إلى نصفين وتنتهي حياته وهذه المقاربة لا تعي بأي حال من الأحوال وضع أي قيود على طرح أي آراء ومقترحات من قبل المشاركين في دائرة الطباشير اليمنية / مؤتمر الحوار الوطني الذي سيحمل في طياته إجابات مستقبلية عن:
-1 الطريقة التي سيعالج بها المؤتمر أسس القضية الجنوبية ضمن السقوف التي تتبلور بداخلها بدءاً من رؤية المشترك مروراً بالفيدرالية المزمنة وإلى جوارهما رؤية فك الارتباط وحق تقرير المصير .. اعتقد وهو اعتقاد جازم في هذه المعضلة أن بريخت لو كان موجوداً وبجواره القاضي الذي حكم في أمر بنوة الطفل المتنازع عليه لشدد على ضرورة وحدة الصف ووحدة الرؤية كضرورة تاريخية تعزز من قوة القضية الجنوبية كقضية سياسية تبحث عن حل تاريخي لا عن تنازع أطراف.
-2 أن القوى الفاعلة الأخرى التي تود البحث في موضوع القضية الجنوبية عليها التزامات تاريخية لا بد من الإفصاح عنها إذ لا يكفي أن يصرح الحوثي بدعمه للقضية كمتكأ ينفذ من خلاله لخدمة قضيته خارج السياق الوطني وأطراف المشترك وبالدرجة الأولى الأكثر بروزاً في إطار من القوى التقليدية والمتأسلمة التي يجد الراعي الأمريكي وفق براعته في استخدام مفهوم البراجماثية العملياتية إنها القوى الأكثر حضوراً وتأثيراً في الساحة ومن ثم يراوح في الإبقاء عليها والتعامل معها ولو على حساب قوى الحداثة والثورة التي تعرضت ولا تزال تتعرض للضغط والتهميش من قبل كل الأطراف.
-3 إن قوى الثورة والتغيير بأطيافها المختلفة هي في أشد اللحظات التاريخية والمفصلية لاعادة قراءة المشهد السياسي وبما يؤدي إلى تعزيز تلاحمها وتكاتف قوتها بعيداً عن التمزق والتشرذم.
-4 إن قوى الحراك الجنوبي السلمي وهي تسعى وتناضل في سبيل إنجاز المهمات التي يطرحها كل فريق مطالبة باعادة قراءة المشهد السياسي قراءة علمية موضوعية تؤدي في نهاية المطاف إلى توحيد الصفوف وعدم التبعثر تحت مسميات تمزق ولا تخدم القضية، تؤجج وتزيد من حدة الاختلافات ولا تساعد على مواجهة متطلبات ما يطرحه العالم وهو يتعامل مع الشأن اليمني بعيداً عن النزق والنرجسيات القاتلة.
-5 أن كل الدلائل والقرائن تشير وتقول وفقاً للحالة الراهنة التي تمر بها بلادنا اليمن أن الوحدة قد قضت الحرب وتداعياتها عليها وإن أي وحدة هي وحدة الشعوب الحرة التي تمتلك إرادتها وتمتلك حق تقرير مصيرها بعيداًً عن الحكام ورغبات البنى الفوقية وعليه سيتقرر داخل دائرة الطباشير اليمنية/ مؤتمر الحوار الوطني ما مفادها وطبقاً لاحترام إرادة الناس فإن الوحدة من عدمها شأن وقناعة شعبية فإذا الشعب اليمني شمالاً يريد الوحدة وإعادة تكوينها بمكون دولة مدنية حديثة والشعب جنوباً لا يريد وحدة كالتي أضر بها وله رأي آخر فلنترك للناس حرية اختيار ما يريدون ويقررون مصيرهم على أن يظل تاريخ الشعوب وثقافتهم واحترام العلاقات الإنسانية بعيداً عن الابتذال أو السطحية هي التي تشكل طبيعة المصالح العليا التي تربط بين أبناء الشعب بعيداً عن سفاهات الحكام وجور حكمهم ومن لف لفهم من أصحاب المصالح داخل أرض الوطن بكامله لتشكل دائرة الطباشير اليمنية نافذة تاريخية لاستعادة الحقوق والقيم التي يقررها الناس بحريتهم ولتظل علاقات الإخاء والإنسانية والاحترام المتبادل للمصالح هي العناوين البارزة لرحلة المستقبل بعيد إنجاز مهمات دائرة الطباشير اليمنية/ مؤتمر الحوار الوطني.
وأخيراً تشدد الرحلة التاريخية للبشرية بمخاضاتها المختلفة بأن فصيلاً بعينه لا يملك الحقيقة ولا يجوز له إلغاء الآخر وإن قوة العقل والإرادة الإنسانية الحرة أقوى من كل الأسلحة الفتاكة.