توفي با شراحيل بعد أن توقفت صحيفته قسرياً منذ نحو سنتين لا لشيء إلا لأن إدارتها وعلى رأسها الفقيد هشام أصرت على اختيار نهج المهنية والحياد ، تماما مثلما أبت أن تكون تابعة لأي طرف من أطراف التنافس السياسي اليمني، واختارت لنفسها الانتصار للوطن والمواطن حتى ولو أدى ذلك إلى إغضاب من يتصادمون مع الوطن والمواطن.
لقد مثلت مدرسة (الأيام) الصحفية حالة متفردة في الساحة الصحفية اليمنية، سواء من حيث اعتمادها على الكفاءات والخبرات المهنية المتمرسة أو من حيث التعفف عن نهج المجاملة والنفاق والتزلف الذي سارت عليه الكثير من الصحف التي تدعي الحرفية والمهارة، أو من خلال الانفتاح على كل الآراء السياسية المتباينة داخل الساحة اليمنية أو من حيث التقيد بآداب مهنة الصحافة وعدم الانجرار إلى المعارك الإعلامية غير المحترمة التي اكتظت بها سوق الصحافة اليمنية، وزاد من تميز صحيفة (الأيام) العدنية تغطيتها للكثير من القضايا المسكوت عنها من قبل بعض المنابر الإعلامية، التي تدعي التفوق والتميز، وعلى رأس هذه القضايا القضية الجنوبية.
لم يكن موقف (الأيام) من القضية الجنوبية قائما على الشطرية أو الشوفينية أو العصبية كما يصور البعض بل كان انتصارا لحقيقة طالما سكت عنها الكثيرون وطالما تعرضت للتشويه والمسخ والتشهير والتجاهل في أحسن الأحوال.
لم يضعف هشام وزملاؤه في صحيفة (الأيام) ولم ينثن أمام التعسف والتجبر، ولم يستجب لطلبات الطغاة بل فضل المعاناة والألم على أن يحني جبهته للأدعياء وزبانية التعسف والبطش.
كنت ذات مرة في منزله في عدن بعد إيقاف الصحيفة، وأذكر أنني قلت له، إذا كان التفاوض مع الجماعة سيسهل إعادة إصدار (الأيام) فلا بأس من التنازل قليلا حتى تمر العاصفة، قال لي:إنهم يريدونني أن أتخلى عن خياراتي المهنية، ويريدون مني أن أقدم لهم عطاءات مقابل الاعتراف بأن ممتلكاتي في صنعاء هي ملك المعتدين، إنهم يمارسون الابتزاز حتى يحققوا مني ما يبتغون، وأكمل حديثه قائلا: لن أدفع لهم ريالا واحدا بالباطل، ولن أنحني قيد أنملة عن خيار المهنية والحياد الذي أسست عليه (الأيام) منذ خروجها إلى الوجود.
رحل هشام با شراحيل لكنه رحل محبوبا وترك مكانا خالدا في قلوب ملايين اليمنيين، بينما رحل الكثيرون ووراءهم لعنات الساخطين ودعوات الفقراء والمظلومين الذين يعانون من السياسات الغاشمة التي أذاقت اليمنيين المرارة على مدى عقود. . . .رحل هشام باشراحيل لكنه ترك لنا مدرسة صحفية ستظل تنهل منها أجيال وأجيال من الصحفيين اليمنيين الباحثين عن الحقيقة المرة، والمنتصرين للحق والرافضين للغش والكذب والافتراء.
نحن هنا لا نعزي آل باشراحيل لأن هشام وإن رحل جسدا فإنه ما يزال يتجسد في مشاعر وأحاسيس كل أنصار الحقيقة في طول اليمن وعرضها،.. لكننا هنا نعزي الذين حاولوا إجبار هشام على التخلي عن مبادئه، ففشلوا.
برقيتان:
* ليت الرئيس عبد ربه منصور هادي يوجه بالسماح لصحيفة (الأيام) بإعادة الصدور والتحقيق في أسباب العدوان الذي تعرضت له على أيدي جلاوزة الأمن منذ عامين، وتقديم التعويض المناسب للخسائر التي تعرضت لها (الأيام) جراء التوقف الإجباري.
* قال الشاعر العربي الكبير محمود درويش:
وكأنني قد مت قبل الآن
أعرف هذه الرؤيا،
وأَعرف أَنني أَمضي إلى ما لَست أَعرفُ
ربما ما زلتُ حياً في مكان ما،
وأعرف ما أُريد
سأصير يوماً ما أُريدُ
سأَصير يوماً فكرةً
لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب،ولا كتاب
كأنها مطر على جبل تصدع من تفتح عشبة
لا القُوةُ انتصرت ولا العدل الشريد.