كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية؟

- هذا الكتاب يقدم الرؤية الفكرية لقادة العمل السياسي في الجبهة القومية وهو من المراجع التي تقدم لنا خارطة الاتجاه الوطني في تلك الحقبة
- الفكر التحرري العربي سقط في مأزق إعادة خلق الإمكانية التي تغير الواقع فعاش أزمات التصادم الداخلي
- التحالفات الثورية لم تساعد على صياغة فكر متجاور بل كانت الأرضية السياسية تعاني من تصدعات لم تقدر الجبهة القومية على تجاوزها
- الكتاب لا يخلو من أطروحات تغلفها نظرة ضبابية علت فيها نزعات شعارات الفكر القومي العربي على خارطة الواقع الجنوبي
14 أكتوبر/ خاص :
نجمي عبدالمجيد :
في العلاقة ما بين الحدث التاريخي والعمل السياسي تقف مسألة قراءة الفكر عند مجريات الفترة وما كان فيها من شروط الأفعال التي ولدت فرضيات واقعها.
ولعل تلك الفرضيات لم تكن منطلقة من التأثر بأفكار اصبحت من وقائع المرحلة. لكنها هي من لبس الاغتراب عن ما ذهبت إليه، قد حجبت الرؤية ومسارات الحقائق، فتصبح بناء فوق رمال متحركة تقود نحو الانزلاق.
وهذا ما عصف بواقع حركات التحرر العربية بمختلف مشاربها وهدم أطروحاتها التي كانت تدعي انها من حالة الأمة خارجة، وإذا بها عاصفة رملية من غبار الصراعات اصبح اصحابها هم ضحايا ذلك الوهم في التحرر والاستقلال، وتهالك ايديولوجية الكفاح الوطني بعد ما وصلت الأمور إلى فاجعة المصير.
ونحن حين نقرأ هذا النص السياسي ـ التاريخي في الراهن لا نطرحه في مشرحة الادانة. بل نسعى لإدراك المسافة بين الفكر والواقع وهل كان من طرحوا تلك الرؤية عند مستوى الوعي الموضوعي بواقع لم يكن بينه وبين ايديولوجيات دخيلة عليه من ركائز الالتقاء مما ذهب بالتجربة التحريرية وأحلام الجماهير نحو الأفق المسدود.
ان التساؤل يذهب إلى أعمق من جذر المسألة السياسية، والرد لن ينحصر في بعض الاخراجات المحدودة المساحة في محاولة الاجابة.
لأن تجارب الأمم دائماً ما تتطلب إعادة التقييم والبحث وهذا ما غاب منه الكثير في تجربة اليمن الجنوبي منذ عام 1967م حتى 1990م وهي الفاصل الزمني المحدود لدولة الجنوب ولتلك السرديات في هذا الجانب من التاريخ، وهي وان توارت خلف أبواب الصمت والابتعاد عن الحضور تظل فاعلة في رسم معالم من تاريخ سياسة سعت بقدر ما تملك من ادراك نحو صناعة حدث مغاير هنا. ولكنها وقعت في انكسار هزات حقائق الأمور التي تحولت من مركز الانجازات إلى دائرة الاتهامات.
ولكن كل عمل له ارتباطاته بمجريات تاريخية.
صدر هذا الكتاب ضمن سلسة اصدارات المفكر العربي ـ دار الطليعة ـ بيروت الطبعة الاولى ابريل 1969م ويشمل رداً على كتاب أزمة الثورة في الجنوب اليمني وهو من تأليف نايف حواتمة وقد عمل في طرحه كل من:
1 ـ علي عبدالعليم 2 ـ خالد عبدالعزيز 3 ـ عبدالفتاح اسماعيل 4 ـ فيصل عبداللطيف الشعبي.
حسب قرار القيادة العامة الصادر في 24 أغسطس 1968م وقد حوى هذا المرجع على الفصول التالية:
1 ـ مقدمة.
2 ـ مدخل تاريخي.
3 ـ كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية؟
4 ـ الثورة في مفترق الطرق.
5 ـ ما هي الدولة؟
6 ـ كيف نفهم الفرق بين عدن وحضرموت؟
7 ـ حول المؤتمر الرابع للجبهة القومية في زنجبار.
8 ـ الميثاق الوطني.
9 ـ قرارات مؤتمر زنجبار.
10 ـ برنامج استكمال مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي.
11 ـ البرنامج الوزاري.
12 ـ قانون الاصلاح الزراعي .
ان ما يضع هذا المحتوى السياسي في دائرة الانحسار الفكري هو بقاء الصوت الواحد في صناعة التاريخ لتلك المرحلة ومحو عدة أطراف شكلت القوى الفاعلة في العمل السياسي قبل عام 1967.
هذه الوضعية هي ما عصفت بكل حركات التحرر العربية وكل الأحزاب التي صعدت إلى سدة السلطة وخلقت قيادة الانفراد بالحكم ولم تسمح إلا بصوتها المنفرد.
مما طرح في هذا الأمر ما جاء في برنامج استكمال مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي، اقرته القيادة العامة للجبهة القومية في دورتها العادية المنعقدة في الفترة 7 ـ 11 أكتوبر 1968م: (ان المدخل الطبيعي والعلمي لمعالجة قضية الثورة في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية لا يمكن أن يأتي إلا عبر فهم واضح بأن مرحلة استكمال التحرر الوطني الديمقراطي الهادفة إلى ضرب الاستعمار والرجعية والاقطاع والبرجوازية الاحتكارية تتطلب معرفة جيدة وتحليلاً أمنياً لأرضية الواقع الاجتماعي والاقتصادي وإلا اصبحت العملية ضرباً من الطموحات المجردة والتحليق في الهواء.
ان ضرورة مثل هذه الوقفة أساسية للغاية وذلك لتجنيب ثورتنا الانتكاسة من جراء قفزها على الواقع الموضوعي.
فلقد مثلت جمهوريتنا ـ قبل الاستقلال ـ بلاداً مستعمرة ارتبط الوجود الاستعماري فيها من خلال احتلال مباشر لها.
ومن خلال ربطه لاقتصادها بعجلة اقتصاده الاستعماري ذاته.
فعلى ضوء تواجد المصالح الاستعمارية في المنطقة وفي أفريقيا وآسيا جعل من هذه المنطقة قاعدة عسكرية في سلسلة السياسة الهجومية الامبريالية والدفاعية عن هذه المصالح كما جعل الاستعمار البريطاني من اقتصاد المنطقة اقتصاد خدمات يعتمد 80 % بدرجة أولى على الوجود الاستعماري.
وعلى مستوى الريف فقد عمدت بريطانيا إلى إبقاء حالة التخلف الاجتماعي والاقتصادي وساعدت بمشاريعها الزراعية المستهدفة مصلحة الشركات الاحتكارية على تقوية وضع الطبقة شبه الاقطاعية والتي كانت تتمثل بدرجة أولى في العائلات السلاطينية الحاكمة اضافة إلى ان مناطق معينة من الريف ظلت تمارس اسلوب حياة هو أقرب في سماته وطابعه إلى اسلوب البدو الرحل ومن خلال هذا الواقع تحددت الطبقات والفئات الاجتماعية في بلادنا).
لا يخرج هذا الطرح السياسي عن تصورات الفكر الاشتراكي التحريري لتلك الحقبة.
فإن كان قد هدف إلى تجاوز المعالجة غير الواقعية فإنه قد سقط في نفس المأزق الذي حاول تجاوزه حيث قسم المجتمع الجنوبي إلى طبقات، وهو انتزاع لفكرة صراع الطبقات في الفلسفة الماركسية والتي هي وليدة عصر ومجتمع بعيد كل البعد عن واقع الجنوب.
كما ان إطلاق شعارات مجوفة: محاربة الاحتكار والقوى الاستعمارية ودحرها وغيرها من مفردات الوعي الزائف الذي عصف بالمنطقة العربية، قد جعل الدولة الجنوبية الوليدة في خط المواجهة والصراع مع قوة دولية واقليمية مازال الجنوب يعاني منها حتى اليوم.
هنا نحن أمام أحلام اليقظة في السياسة، ربما كانت نشوة الحصول على الاستقلال فاعليتها.
لكن علينا النظر إلى الجانب الآخر في الموضوع من هذا التساؤل.
هل كانت بريطانيا تدرك نحو أي المسارات تقود الجبهة القومية الجنوب؟
واين سوف تقف حدود التقاطع في هذا الأمر؟ في هذه المسألة يطرح تساؤل آخر، وهو المسكوت عنه في تاريخ الجنوب لتجربة الاستقلال الوطني والكفاح المسلح، وربما الأهم:
هل كانت بريطانيا ـ وهي صاحبة الدهاء السياسي ـ تدرك نوعية العقلية التي سلمتها حكم الجنوب؟
لقد جاء الرد عبر حقب الأزمات والصراعات التي عاشتها تلك القيادات.
إن النصر في الكفاح ليس الوصول إلى نقطة واحدة بل هو في كيفية تحويله إلى انجازات وطنية وليس الذهاب به إلى ساحات التناحر.
لقد انقلب الصدام مع الطبقات في الجنوب إلى مواجهة في داخل الفصيل السياسي، الذي أقام تصوره على هدم تركة الماضي وإعادة بناء واقعية أخرى. لكنه لم يدرك أن الواقع كان أكبر من تصورهم السياسي.
فهل هذا المنعطف أصبح من مسببات دورات العنف السلطوي والذي أسقط آليات الحوار والنقد لمسائل ظلت في أركان التحدي لتلك المسيرة؟
وكيف تطبق نظرية الاشتراكية العلمية في واقع هو مكون من حياة البدو والقبائل والجماعات الفقيرة، وهي من دخل في هذا الاتجاه السياسي ليسحب معه كل هذا الإرث عند التطبيق بل يتسلح به كقوة اجتماعية ـ تاريخية لا يمكن تجاوزها في إطار واقع هي من أسس ركائزه؟
هذه هي المفارقة الصادمة عند فكر الجبهة القومية التي وقعت في مأزق اسقاط الإيديولوجية على بيئة طاردة لكل ما يخلف منطقها في صناعة حتمية وجودها، فلم تعمل شعارات المرحلة أكثر من تغليف الحقيقة بقناع وهم الانتصار على الاستعمار وأعوانه، وتجاهلت اتباعها من ترسبات هذه البيئة ما يفوق التنظير السطحي. في طرح آخر يذكر هذه المرجع: (أهداف الثورة: إن الثورة المسلحة التي اكتسحت الجنوب كتعبير عن إرادة شعبنا العربي وكأسلوب أساسي للمقاومة الشعبية ضد الوجود الاستعماري ومصالحه وركائزه ومؤسساته المستغلة للشعب. إن هذه الثورة لا تهدف إلى جلاء المستعمر من المنطقة فحسب وإنما هي حركة دائبة تعبر عن عقيدة للحياة شاملة وراسخة لدى شعبنا تستهدف أساساً تغيير الواقع الاجتماعي الذي صنعه الاستعمار تغييراً جذرياً في كل مفاهيمه وقيمه وعلاقاته الاجتماعية القائمة على الاستغلال والاستبداد وتحدد بالضرورة نوع الحياة التي يريدها شعبنا ونوع العلاقات التي يسير متجهاً إليها سواء على مستوياته المحلية أو الإقليمية أو القومية أو الدولية.
وبما أن الجبهة القومية هي الأداة الثورية الجماهيرية التي تمثل في بنيتها التنظيمية كل قطاعات الشعب العاملة، فإنه انطلاقا من ذلك المفهوم الثوري يتوجب عليها وهي التي تقود النضال المسلح والثورة المسلحة والتي تتمثل بقدرتها على تحمل هذه المسؤولية الكبرى كل أماني الشعب واهدافه الثورية التحررية أن تسير في هذه المرحلة النضالية من تاريخ شعبنا على الأهداف والمبادئ).
الثورة لا تصنع التغيير، ولكن الوعي السياسي هو من يرسم خطوات مسار التحولات.
في إطار هذا الزحف الحماسي الذي استحكم في ضرب طوق حصاره على إمكانية استشراف على أية أرضية قادمة سوف تذهب إليها الأغراض.
ذهب الفكر السياسي عند الجبهة القومية، وهو لم يكن بعيداً عن مرحلة انقسام الدول المتخلفة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الراسمالي. بعد وضع سياسة إخراج الاستعمار القديم. فرنسا وبريطانيا وما كان من ذلك التصارع على الجنوب بين الشرق والغرب لأن فيه المواقع البحرية والثروات وكلها ما زالت حتى اليوم تعيد فتح نفس الملفات والتي لم يحدد مشروعها السياسي.
إن مما جاءت به هذه الكلمات في تلك الفقرات، لا ترى في الجنوب سوى ساحة نضال يجب أن تصل نارها إلى كل زوايا التحرر.
ولا ندري كيف غفلت الجبهة القومية عن مواقع وثروات الجنوب. بالرغم من أن وثائق بريطانيا قد طرحت هذه الحسابات الخطيرة والمحددة لمصير الجنوب وهي تفوق مسائل النضال الوطني والتي لم تصنع غير دورات العنف.
هناك قضية لعبت دور صناعة الهزات الأرضية على جغرافية الجنوب السيادية. بريطانيا منذ بداية الكفاح المسلح عام 1963م أدركت أن خارطة الجنوب العربي ذاهبة نحو تغيير هو في منعطف حركة التاريخ، والتي أعادت رسم معالم مغايرة وبالذات في الجزيرة العربية.
وحين نلقي نظرة على خارطة اتحاد الجنوب العربي في تلك الفترات المضطربة في اوضاعها سوف نرى نحو اي المساحات كان الامتداد الجنوبي، وما فيها من ثروات ومواقع.
غير أن السياسة البريطانية وهي مدرسة في صناعة بؤر الصدامات عملت على طرح صياغة أرضية تنسحب من نوعية انتمائها السابق ، لتدخل في مسارات الحروب وتصاعد الأزمات مع عمق إستراتيجي في المحيط الجغرافي ما كان له أن يتم التعامل معه عبر قوة السلاح والتي ادخلت دولة الجنوب في لعبة تصفية الحسابات من منطلق العداوة مع الجوار، وكأن بريطانيا كانت هي بوابة السلام هنا ، ولم يأتِ رحيلها إلا بمن يعمل على اختراق هذا الجوار بالفكر والسلاح.
في فقرات أخرى تطرح هذه النظرة: (إن أزمة السلطة لا زالت تتمثل حتى الآن في عدم قدرتها على تثبيت حكم قوي، ومن بين العوامل المساعدة على ذلك عدم توفر جهاز إداري كفوء يتحمل مسؤولية المهمات الموكلة إليه وقد كان لهذا أثره في إثارة النزاعات الداخلية بين المواطنين مما شجع على التوجه إلى الأمن والجيش في المناطق الريفية لحل مشاكلهم بدلاً من الأجهزة المدنية لعدم توفرها أو لضعفها وأعطى الفرصة لبعض العناصر الانتهازية لتستفيد من أوضاع كهذه ومن ناحية أخرى فإن ضعف الجهاز الإداري كان من بين العوامل التي ساعدت على تفشي ظاهرة الازدواج في السلطة).
الدولة قبل أن تكون سلطة هي إدارة.
وحين عملت الجبهة القومية على تغيير أسس العمل من العهد البريطاني إلى مرحلة الثورة الوطنية، لم تكن تدرك أن قلب القوانين والعمل الإداري، هو من أخطر العوامل التي تساعد على وضع المشروع السياسي لأي كيان في مأزق بناء قواعد الدولة.
العنف الثوري لا يصلح لصناعة نقلة من التخلف نحو التقدم. بل لعب على تصاعد عقيدة التغيير عبر تفجير المواجهات في قلب السلطة السياسية ذاتها.
لقد عانت القوانين السياسية التي طرحت من محدودية النظرة منذ خطواتها الأولى، لأنها لم تجد الجهاز الإداري المتمكن في عمليات التنفيذ. والخطورة في المسألة حين يتحول القرار من الجانب الإداري إلى الحسم السياسي. ما زال لهذا التاريخ صفحات علينا قراءتها وإدراك الكيفية التي عملت على خلق الفعل السياسي في كتابات دولة الجنوب، والتي ما زال لها بعض الوجود هنا.
