أمريكا وإسرائيل ولعبة الخرائط المتشرذمة على الأوراق المشتعلة


ـ الحروب ليست مجرد أفعال بل هي عقائد تربّي توجهات الشعوب على القناعة بالمصير المفروض عليها
ـ لأكثر من قرن من التاريخ فقد الشرق وعي الأمة بذاكرتها
ـ الأطروحات السياسية في الشرق لم تكن إلا مشاريع صراعات دائمة لم تخلق قواعد البناء بل أسست لعقائد العنف والإرهاب
ـ العديد من دول المنطقة تمر حالياً في مرحلة التصدع والسقوط ولا توجد لديها المقدرة على إعادة شخصيتها القومية

14 أكتوبر/ خاص:
نجمي عبدالمجيد:
نحن لا نعمل على حل المشاكل بل على إدارة الأزمات. هذه هي مقولة لأحد أعمدة وصناع السياسة الأمريكية في العصر الحديث الدكتور هنري كيسنجر، وهي أيضاً استراتيجية عمل تصاغ في واقع التعامل مع قضايا الشعوب ومصائرها وجعلها دائماً في عمق الحروب ونهب الثروات والإفلاس الاقتصادي وتعزيز عقيدة التناحر وعدم التنمية حتى تواصل القوى الأمريكية ممارسة سياسة القوة القاهرة.
أما مقولة أول رئيس لوزراء دولة إسرائيل ديفيد بن غوريون «لقد وجدت إسرائيل لتبقى»، فتؤكد على ان واقع وجودها لا يعترف إلا بسياسة السلاح والعنف وان المسافة الفاصلة بين حضورها والمغاير هي نسف ذلك الشيء الرافض لوجودها وهنا نقف أمام فلسفة العنف السياسي التي لخصها أحد قادة إسرائيل وهو مناحم بيجين بهذه العبارة: (العالم لا يشفق على المذبوحين ولكنه يحترم المحاربين).
وكل هذه العبارات وان مورست في بقاع من الأرض حسب ظروف انتاجها غير انها في العالم العربي قد وصلت إلى قمة التدمير في آليات تصنيع الحروب وهدم الدول.
فلم تكن أمريكا وإسرائيل في اطار سياسة الهيمنة العدوانية إلا عمليات انتاج لدوائر الصراع والارهاب والهدم من داخل المجتمعات.
من هنا نجد حالات التشرذم لخرائط المجتمعات العربية قد ساعدت على فرض أفعال الفوضى فلم يكن لنظريات الهدم من حضور ان لم يكن واقع الحال يساعد على اقامة عمليات التشريح لجسم المجتمع العربي.
وحين نلقي نظرة، وبالذات على الحكم الجمهوري في الوطن العربي، نجده هو المستهدف في معظم حروب المنطقة وهي الدول التي قادت في الماضي حركات التحرر والكفاح المسلح وتبنت افكاراً وعقائد ضد سطوة الاستعمار العربي، ومنها من انجاز إلى معسكر الفكر الماركسي حين رفع شعارات ضد مصالح أمريكا وإسرائيل.
لكن الحد الفاصل في كل هذا هو: لماذا ذهبت شعوب وأوطان تحررت من قبضة الاستعمار لتدخل في رهاب الحكم العسكري والمخابراتي والقمع السياسي لتحول الوطن إلى معتقل وغرف تعذيب؟ فلم يكن ميراث كل هذا سوى ميلاد التطرف والارهاب باسم الدين وكأنه ايديولوجية مشحونة بكل عوامل التفجير لا ترفع راياتها إلا عبر نسف هذه الأنظمة الكافرة.
وهذا المحور القائم على الصراع الديني لعبت فيه المخابرات الغربية وإسرائيل دورات من الدفع بما يساعد ويعزز استمرارية هذه الحالة التي أوصلت مجتمعات إسلامية إلى قتل بعضها بعض باسم الحق الإلهي.
هنا لم تغفل مراكز الدراسات والبحوث في الغرب منزلة ثقافة وعادات الشعوب العربية وما لها من حضور في صد زحف الهدم لجوهر هويتها وقوميتها، طابع شخصيتها.
وفي اطار سياسة نبش مفارقات التصادم في الذات الواحدة وتحويلها إلى نقاط تصارع يقول الأستاذ كمال حماد أستاذ القانون الدولي العام في كلية الحقوق الجامعة اللبنانية: (1 ـ نخر الهوية القومية عبر الاستلاب والتهجين وفرض نسق واحد من القيم إلى حد أعاد الاعتبار المعرفي إلى كلمة قبائل التي غدت كلمة مفتاحية في فهم حروب الهويات والاثنيات والطوائف المشتعلة بؤرها في آسيا وأفريقيا وحتى في قلب أوروبا حتى بتنا أمام تجزئة العالم، الوجه الآخر للعولمة. وهذا ما أكدته ماريسون تورن أستاذة العلاقات الدولية والاستراتيجية في كتابها انقلاب العالم فهي ترفض الاختيار بين التجزئة والعولمة فهما برأيها متشارطان ومتلازمان.
فكلما اتجه العالم نحو العولمة فرز بالضرورة ردود فعل دفاعية تؤكد على الهوية والخصوصية وتعارض سيرورة الانفتاح بحلول انغلاقية.
2 ـ تجزئة العالم: وقد بدا هذا المطمح ذا أهمية بالغة لحيويته ورسوخه كشرط من شروط انجاز أهداف العولمة التي تعتمد في انضاجها على تجاوز أو عبور الحدود واختراق حرمة السيادة للدول تحت حجج مختلفة منها ضبط الانتشار الاستراتيجي وتكثيف التبادل وتعديل أنماط العمل الدولي وإعادة تقسيمها وإعادة توزيع الموارد وغيرها.
ويرى زبيغنيو بريجسكي في كتابه الفوضى: أن التغيرات الدولية التي حدثت في النظام الدولي حفزت الولايات المتحدة لتوسيع قيمها في اقتصاد السوق والديمقراطية كما حفزتها لزيادة قدرتها على المناورة وعلى إعادة تشكيل القوميات والهويات والاقتصاديات لمصلحة التفكك وإعادة البناء على أسس سيطرة السوق وقواعد قيمها وتمجيد النزعة الفردية والديمقراطية على النمط الغربي.
3 ـ تفتيت الشعوب: لما كان الهدف الاستراتيجي للعولمة يكمن في نشر وتوسيع النظام الرأسمالي وقيمه، فان اسلوب تفتيت الشعوب بدا جزءاً أو شرطاً متمماً لانجاز هذا الهدف. وهكذا نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في العثور على الاطار الفكري لتخطيطها الاستراتيجي الكوني وما يهدف إليه من أدارة للنظام العالمي باكمله وبكل ابعاده السياسية السياسية والعسكرية وحتى الاجتماعية والثقافية ذلك الاطار الذي يقوم على أساس الاعتراف بمدلولات القوة الانتقائية بمستوياتها الثلاثة، حيث الإجبار المعتمد على العنف وتقليل البدائل المتاحة، ثم تشكيل المعتقدات ومنظورية المصالح، والتي تؤدي دوراً مهماً في دفع المشروع الأمريكي في العولمة.ولكي تحقق واشنطن مبتغاها سعت إلى الإمساك بزمام المبادرة وهو ما يعرف بالاستعارة الإستراتيجية لسياسة الحروب الإجهاضية وذلك عبر:
1ـ فرض مقومات تلك القوة حتى لو تطلب ذلك القيام بعمل عسكري عنيف مجمع عليه او منفرد. تبعاً لاتصال الهدف بالبعد الفلسفي القائل بأن اي تحد لمقومات القوة الأمريكية يعتبر تهديداً مباشراً للأمن القومي الأمريكي فيتطلب المباشرة بردعه.
2ـ توجيه سهام الهدم للهوية الوطنية أو القومية لمصلحة تفتيتها بكل الوسائل الممكنة حتى لو استدعى ذلك استخدام القوة.
3ـ تشجيع حالات التمرد كجزء من سياسة مقصودة هدفها تكييف الطموح الخاص، بكل اتجاهاته لمصلحة تفتيت الشعوب تحت حجة إرساء الأسس الديمقراطية. وبقدر ما يثير هذا التطلع إشكاليات معرفية وسياسية وحتى اجتماعية لمدى صلاحية نموذج التكيف الخاص وبضمنه نموذج الديمقراطية، فإنه يؤكد سعي الغرب لاستخدام هذا النموذج لإعطاء بُعد أخلاقي لظاهرة العولمة).
هذه هي أطروحات السياسة الأمريكية نحو العالم، والشرق الأوسط هو في بداية الاستهداف في هذه الاستراتيجية.
حين ننظر إلى السودان والعراق وسوريا واليمن ولبنان ودول في افريقيا وافغانستان وفلسطين، ندرك كم هي عنيفة اهداف العولمة الهادفة إلى تحويل شعوب وأوطان إلى بقايا كيانات متشرذمة فإن كانت لعبة أمريكا نحو العالم فإن إسرائيل هي مركزية هذا الصراع في الشرق الأوسط.
كانت بداية هذا من ضرب العراق لكن المسألة لن تقف عند هذا الحد.
إن كسر هذا البلد له من معاني فلسفة الهدم من أجل إعادة صياغة الوعي نحو مصلحة أمريكا، قد ترك معظم الحلول خارج مسارها وذهب بالوضع إلى زمن الصدام البعيد عن السيطرة.
لقد أثمرت سياسة هدم وتقسيم الأوطان من الداخل، بل وصلت إلى حد عجز القوى السياسية المحلية عن خروجها من هذا الإحباط الذي تحول إلى طوق قاهر، لا يرى من مخرج غير السلاح. وهذا يعني إدامة المواجهات دون حل حاسم. ولنا اليوم في اليمن والسودان وسوريا ولبنان صور تؤكد مأزق سياسة السلاح التي تضرب لتهدم ولكنها عاجزة عن فرض الاتجاه الواحد في التحكم.
هذا من الأسباب التي ذهبت بإسرائيل نحو طرح خرائط مغايرة للشرق الاوسط الجديد، إن تحكم هذا يعني إرادة القوة. وفي المقابل نرى تراجعاً لدينا على مختلف الأصعدة، وكأن المرحلة لا تتطلب سوى الاستسلام والذهاب نحو المساكنة، لأن نظرية البقاء للأقوى هي عقيدة اليوم.
ومما يجرى من سباق تسلح في المنطقة ندرك أن مشروع أمريكا وإسرائيل نحو المنطقة قد دخل حقبة الهدم الشامل. فلم يعد مجرد حروب عصابات أو فتن مناطقية، أو تحزبات طائفية ومذهبية لأن نوعية السلاح الداخل في هذه الحرب لن يكون على حسابات الحروب الطويلة. بل على إستراتيجية الضربة الشاملة والمدمرة.
هنا تسقط كل معادلات الحضارة من أخلاق وقيم ومحرمات وحينها ندرك أن الوجه الآخر من حضارة الغرب هو الوحشية المفترسة التي لا دين لها سوى الهيمنة.
ومن ساحة العراق توسعت هذه الاهداف وقد كشف سيمور هيرش في صحيفة نيويوركر العدد 21ـ6ـ 2004م قائلاً: (إن إسرائيل نشرت أعداداً كبيرة من الجواسيس في شمال العراق علاوة على تدريب مجموعات كردية مقاتلة لأن الإسرائيليين بحسب هيرش تحولوا لاحقاً إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستخسر في نهاية المطاف ولذلك تسعى إسرائيل إلى إقامة قاعدة ارتكاز قوية في شمال العراق، وتأسيس بنية عسكرية كردية إقليمية تستطيع مواجهة أي قوة شيعية أو سنية، وموازنة النفوذ في العراق ثم القيام بعمليات إقلاق في مناطق الأكراد في سوريا وإيران، وكشفت شبكة تركية تلفزيوينة أن إسرائيل تمتلك في شمال العراق أجهزة متطورة لمراقبة تركيا وسوريا وإيران معاً.
وقد ظلت هذه المعلومات من غير برهان حتى أعلن إرئيل شارون أن إسرائيل لها علاقات متينة جداً مع أكراد العراق).
وكان قد كتب الصحفي الإسرائيلي بوعز غاوون في صحيفة معاريف بتاريخ 1ـ 4ـ 2004م تحت عنوان «قواتنا في العراق»: إن مابين 70 إلى 100 شركة إسرئيلية تسوق منتجاتها في الأسواق العراقية. وبالذات التي لها صلة بالأعمال الامنية المطلوبة في الجيش الأمريكي والقوات العراقية التي تدرب على يد خبراء من أمريكا.
وكان مما هو واضح من هذه العبارات أن الموساد هو من يدير معظم هذه الشركات الجامعة بين التجارة وعمل المخابرات.
ولم تقف المسائل عند حدود العراق. بل هي توجد في كل دولة سقطت فيها القيادة وتحولت إلى مناطق مفتوحة وغابت عنها سيادة صنع القرار، وهذا قد ساعد على خلق كيانات سياسية مناطقية وفرق مسلحة لا تعترف بحاجة اسمها الوطنية الشاملة. بل مواقع الثروة هي من ترسم خرائط الانتماء.
الحروب ليست مجرد أفعال، بل هي عقائد تربي توجهات الشعوب على القناعة بالمصير المفروض عليها. ولم تكن الأطروحات السياسية في الشرق الأوسط، إلا مشاريع صراعات دائمة لم تخلق قواعد البناء، بل أسست لعقائد العنف والإرهاب.
مما يطرح في عقائد السياسة الأمريكية نحو الشرق، هذا الثالوث الذي يعد من محركات عملها في فرض الهيمنة، الأمن والطاقة ودعم إسرائيل.
يقول الدكتور سعيد اللاوندي: ( فمشاريع التدريب والسلب والهيمنة الخاصة بالشرق الأوسط لم تتوقف منذ عقود، بدعوى تنمية الشرق الأوسط اقتصادياً وأبرزها جميعاً مشروع أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل عام 1967م حول إقامة تجمع إقليمي لدول الشرق الأوسط، وصولاً إلى مشروع مارشال الإسرائيلي المعروف باسم: مشروع بيريز للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط.. وكلها تتلاقى وتتعانق مع مشاريع إسرائيلية ـ أمريكية، ومنها مشروع دالاس الخاص بإقامة مشاريع ري مشتركة تقوم بها البلدان العربية وإسرائيل، أو مشروع جونستون الخاص باستثمار مياه نهر الأردن استثماراً عربياً إسرائيلياً مشتركاً أو مشروع أيزنهاور الذي يخصص مساعدات مالية إلى الدول العربية من أجل التنمية الاقتصادية مع ربط ذلك بمقاومة الشيوعية.
وأخيراً مشروع بوش الابن الذي يربط تقديم هذه المساعدات بمكافحة الإرهاب. ولا يخفى على لبيب أن الهدف الأكبر من وراء كل هذه المخططات الأمريكية الإسرائيلية هو تذويب العرب في محيط أوسع بحيث تبهت ملامح الهوية العربية والإسلامية للمنطقة بعد أن تتحول شعوبها إلى أقلية لا تمثل أكثر من 40 % من إجمالي شعوب الشرق الأوسط الكبير).
حين تعيد الذاكرة عبارة مهندس سياسة أمريكا وإسرائيل في المنطقة الدكتور هنري كيسنجر وهي: «تجفيف المستنقعات»، ندرك أن هذه الإستراتيجية التي حملت نحو العرب والإسلام أكثر من صورة في اساليب المواجهة، تعني ضرب كل مراكز المقاومة لهذه المشاريع.
وفي نفس الوقت نرى أن المجتمعات العربية قد دخلت في حالات بائسة على كافة الأصعدة، وهو ما عزز حضور الإرهاب والعنف والفوضى، لتحل محل الوعي الثقافي والمفهوم الحضاري الذي سقط من مراكز العمل السياسي في المنطقة.
ونحن نرى العديد من الدول العربية والإسلامية تمر حالياً في مراحل من التصدع والسقوط ولا توجد لديها المقدرة على إعادة شخصيتها القومية.
من كل هذا ندرك أن الشرق الاوسط قد أصبح لعبة الخرائط المتشرذمة على الأوراق المشتعلة بين أمريكا وإسرائيل.
وهذا العجز العربي والاسلامي، الذي وصل إلى درجة الموت السريري هو ما يدفع بالآخر نحو هدم ما تبقى من عناصر وجود الأمة العربية الذاهبة نحو زمن دون معالم مرشدة في طريقه. ويبدو أن الشرق قد دخل عصر الهيمنة الإسرائيلية الكبرى، بل قد تصبح مركزاً لصناعة قرارات لبقايا من دويلات شرقية فاقدة سيادتها حتى على شوارعها.
المراجع
1ـ الشرق الأوسط الكبير
مؤامرة أمريكية ضد العرب.
الدكتور: سعيد اللاوندي.
الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر.
الطبعة الأولى: يناير 2005م.
2ـ أعداد من مجلة شؤون الأوسط.
العدد: 111 ـ عام 2003م.
العدد: 120 ـ عام 2005م.
العدد: 126 ـ عام 2007م.
الناشر: مركز الدراسات الإستراتيجية ـ بيروت.
