حياتنا معصودة عصيد، لا نفهم كيف نرتب أولوياتنا فيها، أو أفضلياتنا الشخصية، كل على حدة، أيهما أهم لنا الخبز أم الحرية؟ التطبيب أم حق التعبير؟ الكهرباء أم الصحة؟ التعليم أم الماء؟ الأمن أم النظافة؟ المسكن أم الطريق أم السيارة؟ الراتب أم القائد؟ بصريح العبارة، نحن في وضع نفتقد فيه كل ذلك. لكن كيف لنا تحديد التفضيلات المناسبة؟
يذهب المنظرون إلى أن الحرية قبل الخبز، لكن في المحصلة تختفي الحرية نفسها إذا غاب الخبز. في النظريات السياسية، هناك ما يشبه الإجماع على أن البطون الخاوية لا يمكنها أن تبدع ولا تنتج. وهناك قول مأثور نعرفه جميعا “أشبع ابنك وأحسن أدبه”، لا يمكن أن تزرع قيما للخير والحب في نفس طفل يقضي أوقاته جائعا أو نصف جائع، لا يمكن أن تحدث طفلا عن فوائد النوم لنمو متوازن بينما عينه لا تعرف النوم من شدة الحر وقرص البعوض، لكن هل لديك الشجاعة لتحدثه عن الأمن مثلا في بيئةٍ الاقتتال فيها سجية دائمة؟
الحرية في الإسلام مفهوم شامل غير قابل للتجزئة، ولو أن هناك من يريد أن يحجمها من سياق العام إلى ما هو خاص أو أخص. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”. علينا أن ندقق بأن كلمة “الناس” هي المقصودة بعمومها لكل بني آدم بصرف النظر عن المعتقد والجنس واللون والدين. لأن السؤال كان موجها أساسا لمسلم بخصوص قبطي من مواطني الدولة، يجب أن يتمتع - حسب عمر- بكل حقوق المواطنة، بما فيها الحريات على اختلافها وأصولها وفروعها، ما دام يؤدي كل الواجبات كأي فرد آخر في المجتمع.
إذن، هي صرخة حق وتثبيت له من قبل الحاكم، قبل أن يفكر بها المحكوم، وجاءت على خلفية مظلمة ضداً على ابن الوالي الذي رأى في نفسه تفوقا على الآخر، ليس بحكم مكانة الوالي فقط، بل وبحسب ما توهم له أنه أعلى شأنا في الدولة من غيره من الرعية بسبب من ديانته.
نعم، لا نعيش حياة مثالية في كل ما ذكر أعلاه، لنا إرث مروع في مضمار حرية التعبير والحريات السياسية والمدنية ومختلف الحريات... لا يمكن لأي منا إنكار ذلك. لكن لا ينبغي مع ذلك التغاضي عن وضعنا الراهن كنتاج لحروب متداخلة ببعضها لا يمكن التمييز بينها إلا بمقدار المآسي والأوجاع التي تصبغ بها حياتنا يوميا في كل شبر من تراب البلاد، وبصور متناقضة تماما مع جملة الشعارات التي يتم تسويقها ليل نهار.
لكن ما مناسبة الحديث في هذا؟
تكمن مناسبة الحديث في الطبيعة الانتقائية والانفصامية الأمريكية والغربية لمفهوم الحريات والحقوق العامة. رأيناها خلال الأيام الماضية تتحدث عن انتهاك حرية التعبير في بلادنا وكأن ذلك هو أهم مشاكلنا. هي تعرف أن الحرب تفرض شروطها على الحياة برمتها - لا ينبغي للقارئ أن يفسر ما نقول بأنه إقرار من جانبنا لأي سلطة بانتهاك حريات الناس - بما في ذلك كل الحريات والحقوق. إن الحرص الأمريكي والغربي على حرية التعبير يعاني انفصاما واقعيا في الداخل الغربي نفسه ويحتاج إلى إعادة تأهيل.
في الحرب على العراق قتل التحالف الغربي عشرات الصحفيين والعاملين في مجالات الإعلام المختلفة، ولم يرف لهم جفن وهم يغتالون نفس الحرية التي يدعونها. وفي الحرب على غزة قتلت إسرائيل ما يربو على 250 صحفيا فلسطينيا يعملون لصالح مؤسسات إعلامية مرموقة. جوابهم في كل مرة هو “الحرب”.. فهل يختلف جوهر الحرب؟
دعونا من الحرب، ولننظر إلى الجانب الآخر من اللوحة. عندما خرج المتضامنون مع فلسطين في الولايات المتحدة لم نرَ فقط حجم التضييق عليهم والذي فيه الحد الذي انتهك الرئيس الأمريكي التعديل الرابع للدستور، وأمر بترحيل المتضامنين مع فلسطين من ذوي الأصول الأجنبية وقطع التمويل على الجامعات، بينما لم يفعل نفس الشيء مع المؤيدين لحرب الإبادة في غزة.
مع أن التمتع بالحرية والحقوق يجب أن يكون متاحا للجميع. هذه الظاهرة تكررت في كثير من الدول على الأخص في بريطانيا، وكشفت ليس فقط انحيازا فاضحا للمحتل والمغتصب، بل وتسويق منظومة قيمية متناقضة المعايير. أما نحن، فلا تنقصنا حرية التعبير وحدها.
