كل ما نحن فيه هو صراع مشاريع سياسية، البعض يراها مقدسة، من كفر بمشروعه السياسي فقد كفر بالوطن، ويفتي بقطع رقاب من كفر او ارتد عن المشروع على اعتبار انه عدو للوطن، معادلة سياسية انتجت لنا كل هذا، وعززت في بعضنا ثقافة رفض الآخر، وما زالت لليوم هذه المعادلة تنتج لنا خراباً وتصفية حساب، وصراعات بينية، وتراكمات سلبية لا اول لها ولا آخر.
المشروع السياسي عرضة لحركة المد والجزر، يتأثر بحركة التركيبة الاجتماعية ومستوى الوعي فيها، ومدى قدرته في تلبية احتياجات هذه التركيبة وقناعات الوعي المجتمعي، والمشاريع السياسية هي برامج تتنافس، ينتصر فيها من استطاع اقناع الناس بصلاحيته.
فإذن المشروع السياسي قد يبدأ شعاراً وراية، ولكن يجب ان يرسى على واقع يعبر عن كل تلك الشعارات والراية التي ترفع، ما لم يصل لما يريده الناس سيفقد صلاحياته، سيواجه غضب الجماهير، بل رفضهم القاطع له.
من لا يستطيع فهم المعادلة السياسية، لا يستطيع تلبية احتياجات الناس، وسيبقى يغرد خارج سرب قناعات واحتياجات المجتمع، ويعتقد انه بشراء ذمم عدد منهم، وسيطرته على الاعلام ومؤسسات المجتمع الاخرى كنقابات، يستطيع ان يفرض مشروعه دون الحاجة للجهد في تقديم استحقاقات تلبي احتياجات الناس ليقبلوا به، البعض للأسف يعتقد ان المشروع السياسي هو مشروع مقدس، يجب فرضه بالعنف، كما كان يفرض بالسيف سابقا والبندقية حاليا، هذه المعادلة لم تعد تجدي نفعا في عصر الاقتصاد والتكنولوجيا، عصر الناس لم تعد تستمتع بالشعارات وهم جياع، وهم اقرب اليوم للعالم من الامس، بعد ان اصبح العالم قرية كونية، واصبحت المعلومة متداولة، لا يستطيع المشروع السياسي ان يغلق المنطقة التي يحكمها، او يخفي نواياه ومصالحه مع الآخرين، بل صار مكشوفا ومراقبا من قبل الجميع، وصار تحت المجهر الناس تتابع حركاته وتحركاته المحلية والدولية، وتعرف الى اين يسير بهم، وكلما ضاق بهم الحال فقد المشروع السياسي حاضنته الشعبية، فيجد نفسه يضمحل بضعف الحاضنة وفي مواجهة حقيقية مع جماهير غاضبة.
كل مشروع سياسي يستمد قوته من حاضنته، وتبقى علاقاته الدولية وتحالفاته مجرد داعم لتلك القوة، ومن يعتقد العكس يتعرض للاضمحلال بفعل المتغيرات التي قد تطرأ بفعل تبدل موازين القوى العالمية، فإن لا شيء ثابت ودائم نهائيا في السياسة الدولية، الثابت هو ان المشروع السياسي يخدم الناس ويلبي احتياجاتهم وتطلعاتهم في وطن الكرامة والعزة والشرف، حيث لا يجوع والناس ولا يهانون ولا يتركون وطنهم مرغمين بحثا عن لقمة عيش ومواطنة خارج حدود الوطن.
لم تخرج حرائر عدن الا بعد ان ضاقت بهن الحياة والمعيشة، بعد ان خرج الشباب وصرخ الناس وجعا وتعذيبا، بعد مشاهد مأساوية لفقدان الخدمات واهمها الكهرباء والماء، بعد فقر وجوع ومجاعة، وصمت معيب من المعنيين، بعد ان سقطت كل المشاريع السياسية من قناعاتهم، وتحولت لمشاريع تعذيب وقهر واذلال ومهانة، وللأسف لم يوجد أي تجاوب واحساس بما يعانيه الناس من تلك المشاريع، لم يجتمعوا ليدرسوا ما يحدث ورسم سياسات واستراتيجيات الحلول، ولكنهم يجتمعون لحماية المقدس، وتعزيز صراعاتهم، والحشد والتعريض وتوزيع صكوك الوطنية.
في الوقت الذي تنهار فيه العملة، وتخلو الميزانية من الاموال وتعجز الدولة عن صرف الرواتب، يجتمعون لتوزيع المناصب وتقاسم السلطة، والناس تطالبهم بالترشيد والتوفير، وهم يجتمعون لمزيد من الصرف، ولهذا خرج الناس رافضين كل المشاريع السياسية وراياتهم، التي لم تعد تمثل احتياجاتهم، رغم التضحيات التي لم تكن إلا من اجل حياة كريمة ومواطنة ومعيشة ورخاء وحكم رشيد، لا من اجل شعار وراية ومشروع مقدس.