تستحق أن احتفل بهذه المناسبة، كل عام. وتنتابني رغبة محمومة للكتابة عنها وقد جرى قطار العمر، عمري وعمرها. فكلانا ولد في نفس تاريخ اليوم والشهر مع فارق في العام، لهذا نحتفل في التاسع عشر من يناير من كل سنة بعيد ميلادها وميلادي كأنا توأم.
والحقيقة أن هذا العشق بمحبوبتي 14 اكتوبر الصحيفة -الثورة ولد في نفسي منذ وقت مبكر من عمري لست أعيه تماماً، لكنه وقع واحسست به، وعشته في وقت لاحق بكل كياني، ولم أسأل نفسي يوماً ؛ لماذا ؟
ثمة أشياء نعشقها حقيقة، كأنها قدرنا المكتوب، الذي يختزل كل ذرة من ذرات حياتنا، ونفني العمر فيه مهما كانت الصعاب والتضحيات، ولو تطلب الأمر أن نموت في سبيلها - المحبوبة - بل أن بعضنا فعلاً قتل واستشهد وهو يمارس هذا العشق، ويدافع عن محبوبته تلك، وبعضنا دخل السجون والمعتقلات من أجلها ومن أجل حرية الكلمة.
لم يكتب لي شرف ان اكون من الجيل المؤسس لصحيفة 14 اكتوبر 1968م عندما صدر القرار الجمهوري بإنشاء المؤسسة والصحيفة التي تحمل نفس الاسم تيمناً بثورة الرابع عشر من اكتوبر التي انطلقت شرارتها من جبال ردفان الشماء، وكان الشهيد عبدالباري قاسم المهندس الفعلي وراء قانون إنشائها، وتولى منصب أول رئيس لمجلس الإدارة والمدير العام للمؤسسة ورئيس تحرير الصحيفة، بالإضافة إلى منصبه وزيرا للإعلام والإرشاد القومي في حكومة السيد فيصل عبداللطيف الشعبي الذي شكل الحكومة الثانية للجمهورية في ابريل 1969 والتي لم تعمر طويلا. بقيام حركة 22 يونيو في نفس السنة، لكنني أدركت الجيل المؤسس وعملت معهم بعد أن التحقت العمل بصحيفة14 اكتوبر في نهاية 1969م. كان عمري حينها لم يتجاوز العشرين تقريباً. يمكن القول انني كنت وزملائي الذين التحقوا بالجريدةفي هذا التاريخ أو بعده بقليل نعتبر من الجيل الثاني من الصحفيين الذين تحملوا عبء عملية التحرير والعمل الصحافي طوال سنوات السبعينيات بعد ان أسندت إلينا مهمة إدارة التحرير، وحتى بدايات الثمانينيات من القرن الماضي. وبعضنا واصل العمل حتى التسعينيات ومابعدها..
بالنسبة لي، فقد أحببت العمل في الجريدة، واعتبرتها معشوقتي، واعتبرت لذة الكتابة فيها مثل لذةالحياة، وحولتني خلال وقت قصير من شاب مجهول، إلى كاتب معروف إلى حد ما، والحقيقة أن مهنة الصحافة، خاصة للصحافي الذي يحب مهنته بشغف، تحول حياته إلى مايشبه الزلزال وتغير نمط حياته، ونظام الأشياء، وتتحول إلى نوع من الهجس لايوجد المرء فكاكا منه، ليس طلباً للشهرة، بل انها تتحول إلى نوع من العشق المجنون، بكل ما في الكتابة من دهشة، واشتهاء، وبحث عن الحقيقة،إلى درجة يمكن معها أن تسرق منك حياتك دون أن تدري. وفي تلك الأيام التي امتدت شهورا، ثم سنوات كنا نقضي في مقر الصحيفة أكثر مما نقضيه في بيوتنا، ونكتفي بالقليل من الطعام، والقليل من النوم. ونشارك العمال في شرب الحليب حتى لانصاب بالتسمم الرصاصي، إذ لم يكن هناك مكاتب خاصة بالمحررين، بل كنا جميعاً ؛ إدارة التحرير، والمحررين والعمال والمطابع نتكدس في حيز صغير ضيق في إحدى المطابع القديمة في حافة شريف، قبل أن تنتقل إلى مجمع المؤسسة في السيلة امام الهريش في عهد رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير سالم زين محمد.
كانت الصحافة رغبتي الدفينة منذ المدرسة الابتدائية، وكانت الصحيفة الحائطية أولى محاولاتي في الكتابة، وأولى محاولاتي في السرقات الأدبية، الصغيرة الطفولية. وكنت أرى كل السعادة في نفسي عندما أجد موضوعاً صغيراً لي منشوراً فيها بخط جميل وألوان زاهية، قبل أن ينتقل هذا الوله الطفولي إلى العمل في 14 اكتوبر، فاكتشف كل ما في الصحافة من سحر وأسرار وتعب وجمال وقوة وشهرة وثمن تدفعه في وقت ما من سني عمرك، وصحتك دون أن تشعر، وربما من حياتك، خاصة في بلد لاتضمن فيه التقلبات السياسية، وفي اغلبها تكون عاصفة ودموية !! ومع ذلك، نحبها، نعشقها، صاحبة الجلالة هذه، ونحني لها الرؤوس احتراما، بوصفها صانعة رأي عام، وضمير الناس، وسلطة من نوع ما، حتى وإن كانت سلطة رابعة !! وحتى إن كانت في بلادنا لاسلطة لها على الإطلاق، لكنها تحاول، ولنا أن نشجعها على شرف المحاولة...
في عيد ميلادها السابع والخمسين، وعيد ميلادي الخامس والسبعين، تحية لـ 14 اكتوبر ولكل زملاء الحرف والمهنة، الرحمة لمن انتقل إلى الرفيق الاعلى، والبقاء وطول العمر والصحة والعافية والستر، لمن بقي على قيد الحياة، وللأجيال الجديدة من حملة القلم الذين يواصلون هذه المهنة والمهمة النبيلة، لهم جميعا خالص محبتي والاحترام.