الحزن على فراق صديق، يكون مؤلماً وقاسياً، فكيف إذا كان هذا الفراق هو الموت الذي لايؤمل بعده لقاء ؟
الأمل الوحيد الذي كان يرجوه وارجوه هو أن تتاح لنا فرصة لقاء ولو بعد كل هذه السنين، التي امتدت عقوداً من الغياب الموحش ! لكن بُعده عني لم ينسني وجهه الطفولي الذكي ولا الديس، مدينتنا الجميلة، على الرغم من أن كل منا رتب حياته دون الآخر. أحياناً كثيرة أسأل نفسي لماذا تأخر لقاؤنا كل هذا الزمن؟ رغم أن الحنين إلى بعضنالم يتوقف لحظة ؟
لم أصح من حنيني وشوقي إليه إلا حين صعقني خبر موته ! فكان ذلك أصعب شيء في الحياة وأشد قسوة من أي فراق !
في كل مرة أنوي فيها، كنت اؤجل الكتابة عنه، مع انه دائماً كان حاضراً على البال وفي الخاطر .
تعود معرفتي بالمغفور له باذن الله تعالى الكاتب والصديق محمد عوض محروس الذي وافته المنية في الأيام الأخيرة من السنة المنصرمة، إلى أجمل سنوات العمر، في منتصف ستينيات القرن العشرين الماضي، محملين بأحلام الشباب وايقاعات العصر، الحلم بالحرية والوطن الحر والمستقل. حينها كان في السنة النهائيةمن الثانوية العامةالتي درسها في المكلا، بينما كنت لازلت في مقاعد المدرسة الوسطى، وتحديداً المعهد الديني بغيل باوزير، وكانت معرفتي به عن طريق اخي محفوظ قبل أن يسافر إلى الكويت، واستمرت صداقتنا رغم فارق السن حتى غادرت واستقر بي المقام في عدن وانشغل كل منا بما هيأته له الحياة من عمل وانشغال، لم نلتق خلالها إلا عبر ماكتبه الآخر هنا وهناك، أو ماينقله الأصدقاء المشتركون من أخبار الصاحب .
لم يكن الرجل غائباً عن المشهدين السياسي والثقافي، بل كان له حضوره في الإثنين في حضرموت. ولكنه حضور بعيد عن الإعلام والأضواء ينسجم مع شخصية صاحبه الهادئة والرصينةالذي يفضل العمل في صمت وبدون ضجيج . إن كان في السياسة فهو احد ثوار الجبهة القومية الأوائل خلال النضال من اجل الاستقلال الوطني، وتولى عدة مسؤوليات قيادية في الدولة الجديدة منها مأمور مديريتى الشحر، وتريم. وكان مثالاً للنزاهة والتواضع في كل حياته وحظي بحب الناس، وربما أدرك أن الحلم والسلطة شيئان مختلفان، السلطة مساومات وتنازلات وصفقات ورفاهية عكس الحلم بتعبير كامو، ولم تكن كلها توائم شخصا بمواصفاته مثالا للنزاهة والتواضع .
وإن كان بالمجال الثقافي، نشرت له عدة بحوث في العديد من المجلات وله كتابات في التاريخ والسياسة والأدب منها كتابه: “سياحة مع الأمثال الحضرمية” لم يكتف فيه بجمع ما أُتيح له من الأمثال في بحر الأمثال الحضرمية الواسع والثري فحسب، ولكنه بذل فيه جهدا كبيرا في تفسير كل مثل من الأمثال التي احتواها الكتاب الواقع في 480 صفحة من القطع الكبير، إصدار مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر . كما له كتابان آخران : ( في صفة بلاد الجنوب : حضرموت ويمنت ) و( حضرموت والجوار القبلي : التحالف - والمواجهة )
منيت الديس الشرقية وحضرموت مطلع هذا العام بخسارة كبيرة بوفاة صاحب هذه السيرة العطرة الكاتب والصديق محمد عوض محروس “رحمه الله” الذي عانى في أيامه الأخيرة من إلتهابات باطنية نقل على اثرها للعلاج بجمهورية مصر ثم عاد واستكمل العلاج بمستشفى العرب بحضرموت، وتوفي في خواتيم السنة المنصرمة ونعته جمعية التراث والآثار بالديس الشرقية - حضرموت التي كان عضوا في هيئتها الإدارية.