عندما أسقطت العراق ساد الوهم كثيرا ان الأمور هناك تسير إلى خير. لكن البعض تغاضى عن الدور الإسرائيلي السابق واللاحق للحرب ضد العراق. منذ بداية فرض منطقة الحضر الجوي زادت إسرائيل من تغلغلها في كردستان العراق لتبدأ من هناك عملها التخريبي. وأثناء وبعد العملية الغربية وسقوط بغداد بدأ نشاط إسرائيلي آخر في العراق أشبه ما يكون بفرق التمشيطـ، لكن كان هدف هذا التمشيط تنظيف العراق من نوابغه وعلمائه ومهندسيه وأطبائه قتلا وتنكيل وإفراغ أرشيفه العلمي والحضاري من كل محتوياته.
صرنا أمام اشكاليتين بعد ذلك: الإشكالية الأولى تتمثل في طبيعة الخصومات البينية. فنتيجة التمادي في الخصومة تم الخلط بين الدولة والحاكم. فمن جهة طغت (أنا) الحاكم على الدولة بكل ما تحمله من دلالة رمزية وتاريخية وسياسية واجتماعية إلى آخر سلسلة مرموزات الدولة، ومن جهة ثانية تضاءل مدلول الدولة نفسها حتى لم يعد بالإمكان تمييزه عن ظل الحاكم. ولهذا السبب تم النظر إلى عملية تدمير العراق على أنها اسقاط للنظام لا أكثر ولا أقل.
أما الإشكالية الثانية وهي قرينة الأولى ووليدها الشرعي، فتتلخص في غياب القدرة على استخلاص الدروس والعبر مما حدث ويحدث مررا تحت سمعنا وبصرنا، يضاف إلى ذلك الانسياق خلف الاستنتاجات المضللة حيال النتائج المتوقعة. فمثلا اعتقد المجتمع العراقي والليبي وربما السوري أيضا ونخبهم وبسبب من طبيعة النظم التي سادت أن النظام والدولة شيء واحد ولذلك سقط الجميع في شراك التدمير الذاتي.
ان مشكلة التوصل إلى استنتاجات موثوقة عن المآلات الاستراتيجية لكل المتغيرات التي دارت أو الدائرة من حولنا لا تزال بعيدة عن إدراك المنظومات السياسية العربية بصورة مخيفة. يعود ذلك في كثير من الحالات إلى الاعتقاد ان صانع القرار هو شخص متفرد يعمل كالآلة السحرية، وهو بالتالي مستثنى من الخطأ ولا يأتيه الباطل من أي مكان.
لا نعرف بالضبط من أين اكتسب النظام العربي هذه الخاصية. هل من امتزاج النظام بالدولة، أم من المرجعيات الدينية أو الأيديولوجية؟؟
كانت الدول الأوروبية غارقة قديما في مثل هذه الحالة، فكان ينظر للملك على أنه (ظل الرب) والحاكم باسمه، لكنها تخلت عنها بفعل العمليات الإصلاحية والثورات المتكررة. الآن لم يعد هناك من يجرؤ على تسويق مثل هذه الأفكار. لقد أصبح الحاكم والزعيم مجرد موظف يحتاج لمراكز البحث ووضع السياسات والتنبؤ بالنتائج الفعلية للأحداث، وليس بمظاهرها.
في الدول المؤسسية، قد لا يكون صانع القرار حائزا على مستوى كاف من التعليم أو الثقافة، لكنه يستند بالضرورة إلى مؤسسات فعالة وفرق من الخبراء تضع أمامه دوريا جملة من الخيارات والبدائل السياسية والاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية لا يمكنه تخطيها نظرا لوجود استراتيجية دول ثابتة لا ترتبط بشخص الحاكم او الزعيم ولكنها ترتبط بالمصلحة الوطنية العليا ويتم تحديثها بصورة دورية بصرف النظر عن التيار او الحزب الحاكم، وهذه النقطة أكد عليها وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين في مقال له في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية في أكتوبر الماضي.
الأمر في منطقتنا مختلف. فقد لا يعتمد صانع القرار على أي استشارات أو أبحاث وتوصيات موثوقة، مكتفيا بقدراته الخاصة الخارقة وبقدرات بطانته. أو أنه يوجد مستشارون أو مراكز ولكنها غير قادرة على تقديم أي شيء إما بسبب نوعية الكادر وطريقة تشكيله أو بسبب عدم رغبة صانع القرار بالتعامل معها أو بالسببين معا. والأنكى من كل ذلك أن يكون صانع القرار محتاجا للمعلومة لكن ....
الحاجة ماسة جدا الآن بالذات للتفكير بصورة استراتيجية بعيدة المدى بالنتائج الحقيقية للتحولات التي تعصف بالمنطقة والبناء عليها بمقاربات وطنية وعدم الركون إلى المظاهر الخارجية الخداعة لهذه التحولات.