الشخصنة هي مرض تقديس الأشخاص على حساب الجماعة والمؤسسة.
الشخصنة هي بوابة الاستبداد، بل هي الاستبداد ذاته، فالمستبد يُصنع من قبل أتباعه، الذين يعطونه صفات ومميزات أكبر من حجمه.
الفرد مهما كانت قدراته وإبداعاته يظل ناقصا لا يستطيع تحقيق شيء إلا إذا كان معه جماعة قوية تسانده.
القائد الفذ والزعيم الضرورة والقيادة الحكيمة ورجل المرحلة كلها عبارات ومساحات استبدادية تعلي من شأن الفرد، وتهمّش من دور الجماعة وتصنع الاستبداد.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- رغم أنه كان يُوحى إليه، إلا أنه كان لا يقوم بشيء إلا بعد التشاور مع أصحابه، لقد كان الصحابي يقف أمام الرسول -صلى عليه والسلام- ويقول له بكل شجاعة: يا رسول الله: أوحي، أم هي الحرب والخديعة والمكيدة!! فإذا كانت الحرب والمكيدة! يقول له الصحابي: هذا ليس صحيحاً، والصحيح كذا وكذا.
الشخصنة تسللت إلى الثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي، وصارت الانتصارات الكبيرة التي حققتها الأمة تنسب إلى أشخاص، وتهمّش فيه دور الجماعة.
لقد انتصرت الأمة على الصليبيين، وحُررت القدس، وهذا الانتصار كان نتاج جهود بُذلت من قبل أجيال من الأمة، بدأت من نور الدين زنكي وعماد الدين محمود والإمام الغزالي صاحب كتاب “إحياء علوم الدين”، وصلاح الدين وجيشه الذي قام بعملية التحرير لم يكن إلا ثمرة لهذه الجهود.. للأسف الشديد، بفعل ثقافة الشخصنة: النصر والتحرير في هذه المعركة يُنسب لصلاح الدين الأيوبي وحده، حتى الجيش الذي كان يقوده لا يُذكر، فنسمع دائما عبارة “صلاح الدين حرر القدس”، والحقيقة أن صلاح الدين لم يكن إلا قائد الجيش، صحيح أن لقائد الجيش دورا عظيما، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون جنوده، ولا شك أن الجيش كله كان يحمل الروح نفسها والإرادة نفسها، التي كان يحملها صلاح الدين، وقد يكون فيه من هو أفضل منه.
هذا مثل واحد عن “الشخصنة”، فكيف تسللت هذه إلى ثقافتنا، التي -للأسف- صارت هي السائد، فالمنجزات تنسب للأشخاص، والأحزاب والجماعات تنسب للأشخاص، والمؤسسات يربط مصيرها بأشخاص، لذلك تراجعت الأمة وتوقفت النهضة.
إن من يصنع الحضارة والنهضة هو الجماعات المتماسكة القوية.. لنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد عمل على بناء جماعة، وهذه الجماعة أقامت دولة، ونشرت الإسلام إلى أقطار الأرض، فلم يربط هذا الجماعة بشخصه صلى الله عليه وسلم، لذلك عندما لحق بالرفيق الأعلى لم يتغير شيء، وظلت الجماعة كما هي قوية متماسكة.
في الوقت الحالي، تم تغيير مصطلح الجماعة، فصرنا نسمع عن “دولة المؤسسات”، فالدول القوية والمتقدمة والمؤثرة في العالم لا يقودها أشخاص، إنما تقودها مؤسسات، وهذه المؤسسات لا تتأثر بتغير الأشخاص.. فالولايات المتحدة الأمريكية يغيّر فيها الرئيس كل أربع سنوات، لكن مؤسسة الرئاسة لا تتغير ولا تتغير سياستها.. فالرئيس مجرد موظف يؤدي واجباته الوظيفية وفق اللوائح والقوانين التي تقوم عليها المؤسسة، وهذا هو سر قوتها وتقدمها وتمكنها من التحكّم بالعالم.
ما يزال عندنا العمل المؤسسي غائباً، حتى في ثقافتنا، فالخطباء والأئمة في المساجد دائما ما نسمعهم يرددون دعاء: اللهم هبْ لهذه الأمة قائداً ربانياً، اعتقاداً منهم أن الحال سوف تتغير مباشرة في حال وجود هذا القائد، وهذا خلاف التصوّر، فالقائد الرباني لا يمكن أن يوجد إلا في وجود جماعة ربانية، أو بالأصح “مؤسسات ربانية”.
فالأمة لا يمكن أن تنهض وتصلح حالها إلا في ظل دولة المؤسسات، التى لا تتأثر بتغير الأشخاص، فالتحرر من ثقافة الشخصنة، وتقديس الأشخاص صار “ضرورة واقعية وفريضة دينية”.