كانت أول زيارة اشاهد فيها القاهرة عاصمة مصر العربية في مايو 1973م أي قبل خمسة أشهر من حرب أكتوبر التي انتصر فيها الجيش العربي المصري على الصهاينة وتم في هذه الحرب تحرير أرض سيناء.. وآخر زيارة لي للقاهرة في يونيو 2009م، أي أن المسافة بين 73 و2009م ستة وثلاثون عاماً (عمر كامل).. وخلال هذه المسافة زرت القاهرة أكثر من عشر مرات، زيارتي الأولى كان عمري ثمانية عشر عاماً.. وسبب زيارتي للدراسة الإعدادية ثم الالتحاق بمعهد المسرح العربي.. طبعاً الزيارة على نفقة والدي رحمه الله وأسكنه جناته، إلا أنني لم أكمل مهمتي نتيجة الحرب والمقاطعة العربية لمصر والتي استمرت سنوات طويلة خسرنا نحن العرب لأن مصر كانت وستظل منذ الزعيم الراحل جمال عبد الناصر رئة العرب كلهم.. ولا أبالغ لو قلت أننا كعرب خسرنا هويتنا وهواءنا النقي في زمن كان المستعمر الأجنبي يجثم على أنفاسنا في أكثر من بلد..
المهم والأهم لست اليوم في صدد الحديث عن ذكريات السنوات الأولى من شبابي الذي بدأـ يتشكل وينمو في مصر بلد ناصر وأرض الفراعنة فانا ومنذ زيارتي الأخيرة في يونيو 2009م للقاهرة ومعي أبي وأستاذي المخضرم محمد عبدالله مخشف وعائلته والتي هي ابنة الفنان الكبير محمد مرشد ناجي رحمه الله...
وكانت زيارتي للعلاج.. أقول منذ 2009م وحتى الآن تعبت بل تآكل جسدي وبدأ يتأكسد وكانت نصيحة الأطباء بأن أعود بعد أربعة أشهر وأنا الآن في العام الرابع طريح الفراش يزداد ألمي يوماً بعد يوم وسبب عدم عودتي إلى القاهرة قلة المال ونكران الوفاء من بعض الأصدقاء والأخوان الذين هم قادرون على مساعدتي في العودة للعلاج بالقاهرة.. واليوم وقبل ثلاثة أسابيع سافر أخي الذي لم تلده أمي وأستاذي في الحرف والكلمة محمد علي سعد سافر وهو رئيس لمجلس الإدارة رئيس لتحرير صحيفة (14 أكتوبر) بمعية أسرته الكريمة.. وعند عودته كتب بقلمه الرشيق الذي يخاطب الزوايا الحادة في القلب عن زيارته.. ثلاثة مواضيع بدأها بمصر واختتمها بـ “ارفع رأسك” ثلاثة مواضيع كلها دون استثناء لامست زواية قلبي المجروح منذ أربعة أعوام أو خمسة وتحديداً عام 2009م آخر زيارة لي لمصر.. أبكاني أستاذي أبو عمرو.. بل أعادني في سطور كان مدادها دم قلبه الرقيق وإحساسه الوفي أعادني لمصر وجعلني دون شعور أكتب مقالي هذا والدموع تسكب من عيني..مصر أمي وأبي.. مصر الضرع الذي شربت من نيلها..مصر الحرف الأول الذي تعلمته في الحياة..
أخي ( أبو عمرو) أو الأستاذ محمد علي سعد وفي مقاله الثالث قبل بضعة أيام “أرفع رأسك” حرك في دواخلنا نحن الذين عشنا في مصر والذين لم يعيشوا أو يشاهدوا كيف يعيش المواطن المصري البسيط في إمكانياته والكريم في عطائه للآخرين.. أقول إن هذا المقال أشعل في نفوسنا ثورة الغضب ضد كل الحاقدين خاصة بعض الأشقاء العرب وقنواتهم الفضائية ضد مصر.. ويصورونها بصور بشعة وهي آية من الروعة والجمال الذي يتجدد ليس كل يوم بل كل ساعة.. يحاولون وللأسف أقول إنهم بعض الأشقاء ليس فقط الإساءة لحضارة ممتدة آلاف السنين.. حضارة ولدت منها حضارات إنسانية عظيمة.. بل يحاولون -ويعلم الله ما هدفهم ومن يحركهم يحاولون قلب الحقائق ويصورون بأكاذيبهم مصر الساحرة بأنها شاخت وحان موعد موتها.. مصر “بهية وطرحة وجلبية”.. الزمن شاب وأنت شابة هو رايح وأنت جاية”.
خلاصة .. لأن القلم يرتعش في يدي والدموع لا تتوقف عن التدفق فوق الأسطر.. أقول شكراً أستاذي (أبو عمرو) لأنك وبمداد قلمك أعدتني لمصر التي أتمنى من الله الرحيل إليها والموت فوق أرضها.. أعرف أنني لن أعيش سنوات قادمة لذلك أرجو أن تكون سنوات عمري الباقية في مصر.. مصر التي في خاطري ونبضات قلبي وفرحي ودمعي وابتساماتي.. مصر التي قد لا أعود إليها مجدداً لقلة المال ونكران جميل الأصدقاء القادرين..مصر وهذه أمانة في أعناق كل من أعرفهم ومن لا أعرفهم هي قبري ومثواي الأخير.. فأنا لا أبحث هنا عن سكن بل أبحث اليوم عن وطن آمن ومستقر والعيش مع شعب يبدأ صباحه بابتسامة وينام على ابتسامة.
شكراً أخي (أبو عمرو) ..أعدتني لمصر
أخبار متعلقة