الأم حاضرة حضوراً قوياً في الأساطير وفي القصص الشعبي، الأم حقيقة الحقائق، وأصل الكون، الأمهات حاضرات في الفرح وفي الحزن. أصبحت الأم رمزاً للصمود في مجتمعاتنا خلال السنوات الماضية، فأمهات الشهداء الذين راحوا ضحايا الإرهاب وحوادث القدر دخلن بيوتنا، صدقنا حزنهن، وتعاطفنا كثيراً معهن، أصبح همهن من همنا بكين أحببناهن فأدمين قلوبنا وناشدن الحكومات فتردد صدى صوتهن في ضمائرنا. يزيدهن الفقد جلالاً وألقأ كثيراً وخفنا عليهن قد ننساهن وقد ننسى أولادهن وحرقة قلوبهن بعد وقت طال أو قصر، لكن لن ننسى أبداً كيف شعرنا إزاءهن سنذكر ما قلنه عن أولادهن الذين رحلوا بلا عودة، رحلوا وتركوا لهن سببا للزهو والافتخار، رحلوا لكنهم تركوا عدداً قليلاً من الصور والكثير من الذكريات لن نكف عن تخيل أنفسنا في مكانهن سنظل نفكر فيهن ونحن نحتضن أبناءنا، ونحضر حفلات تخرجهم ونحن نزفهم إلى بيوتهم الجديدة.
هذه تحية للأمهات: أمهات الشهداء والأمهات البسيطات اللواتي لا يذكرهن أحد، الأمهات العاديات مثل أمي وأمك، تحية للجدات والخالات والعمات وصديقات الأمهات، وأمهات الأصدقاء المضيافات، وزوجات الآباء الطيبات والجارات الحانيات والمعلمات المخلصات والأمهات اللواتي قضين عمرهن يحلمن بإنجاب طفل صغير لم يأت. ظلماً نعتبرهن عاديات؟ أمومتهن في ساعات طويلة قضيناها معهن نكرر خلفهن حروف و(حكاية سندريلا) نكررها كل يوم قبل (الهجاء وبعض الكلمات الأجنبية)، وفي (حدوتة الشاطر حسن)، النوم في بيت نظيف مرتب نسكن فيه، وفي عجين نصنعه ونشكله عند الضجر، وفي لعبة (بيت بيوت) يلعبنها معنا، هن أصحاب البيت ونحن الزائرون، وفي حنان يغمرنا عند المرض، وفي بذل كل الجهد معنا كي ننجح ونتفوق، في ملابس العيد المنتقاة بعناية.
في حضورهن الاحتفالات المدرسية لرؤيتنا ونحن نؤدي رقصة أو عرضاً مسرحياً لتصويرنا وتشجيعنا، في أغنيات فيروز كل صباح وصوت وردة الذي لا يفارق سياراتهن، في وداعنا بحرقة عند السفر للدراسة أو العمل، وفي الإشراف على بيوتنا الجديدة عند الزواج، في صحبة طويلة جميلة، في تعليمنا القيم دون فلسفة وضجيج. في المواقف التي تتطلب القوة لأجلنا، في حب صغارنا وتمييزهم، في هدايا مازالت تأتينا منهن على البعد لأنهن يعرفن أنها ستعجبنا، في مكالمة تأتيك منهن: حلمت بك، هل أنت بخير؟
الأمومة في تعلم مبادئ استخدام الكمبيوتر للتواصل معنا عبر الإنترنت، الأمومة في إخفاء الأخبار المحزنة عنك كي لا تفسد عليك لحظات السعادة حتى وإن كان الخبر هو إجراء عملية قلب مفتوح. الأمومة قلوب محبة بعدد الأبناء مهما وهنت مهما كثر عددهم. الأمومة في طعم لا يفارقك، فتظل تقول لا أحب هذا الصنف من الطعام إلا من يد أمي، الأمومة فنجان قهوة نشربه معاً، الأمومة حضن دافئ نظل بداخله صغاراً. الأمومة عيد تأتينا قبل العيد. الأمومة في دعوة صادقة نطلبها في لحظات الخوف والعجز. الأمومة في زيارة تخصنا بها الأمهات لحضور احتفالاتنا واستقبال مواليدنا، الأمومة نبرة في الصوت تقول لك أنا أتابعك وإن كنت في الأربعين أو الخمسين أو حتى الستين. الأمومة في زغرودة أم من المشارات في برنامج (ذا فويس) حين يحصل ابنها على استحسان المدربين ويلفون له الكراسي الأربعة. في دمعة تقطر من عينها عند إعلان اسمه فائزاً..الأمومة في قلقهن علينا ونحن نقود سياراتنا بالليل وعلى الطرق السريعة حتى نصل لوجهتنا. في سعادة نلمسها ونحسها حين يملأ صراخ أولادنا بيوتهن. الأمومة في تشبثهن بالحياة لأجلنا. في خطوات أبطأ من ذي قبل، لكنها خطوات تعرف طريقها إلينا ولا تخذلنا أبداً. في شعر أمومتهن بركة وصلاة تفتح لنا الطريق، الأمومة سر أبيض يغزو رؤوسهن وتجاعيد لا تزيدهن إلا جمالاً نكتشفه في منتصف العمر وأيقونة لما تبقى منه.
كاتبة فلسطينية
لـســن عاديات
أخبار متعلقة