كان التعايش السلمي تحت المظلة النووية أطيب - وأرغد، بالمقارنة مع الفوضى السياسية والاجتماعية الخطرة التي نعيشها اليوم - وحتى تحليل أزمات الحرب الباردة كان أسهل وأبسط. كان الصحافي الكبير أحمد بهاء الدين يصحو من غيبوبة أهل الكهف في مرضه الأخير، ليكتب تعليقا في السياسة الدولية.
وكان القارئ الغشيم في السياسة، يظن أن بهاء الدين يتابع مجرى الأحداث ساعة بساعة على مدار 24 ساعة. ولم يكن يعرف أنه كان راقدا في غيبوبة طويلة. الواقع أن الأحداث لم تكن تجري خارج القناة التقليدية المرسومة، للصراع بين الكتلتين الجبارتين.
كانت السياسة من صنع الكبار الكبار على الضفتين المتقابلتين، بحيث لا يصل الصدام السياسي والآيديولوجي إلى تفجير نووي. ولا يخرج عن مضمون السياسات والآيديولوجيات المعروفة آنذاك في الشرق والغرب.
في الفوضى العالمية والعربية الحالية، هناك أيضا فوضى وبعثرة في تحليل السياسة. وفوضى هائلة في تناقضات الرأي والموقف. وهذا واضح من مطالعة مواقف وآراء كتّاب السياسة والمعلقين المحترفين. وأيضا لدى القارئ السياسي الذي بات أكثر مشاركة وتدخلا في التحليل، من دون أن يملك كامل أدوات الخبرة. والتجربة. والمعرفة السياسية والتاريخية.
في هذه الفوضى الممزقة للرأي العام، يصر القراء/ الكتّاب على أنهم كتّاب سياسة. ويطلبون من محرري صفحات الرأي إدراج أسمائهم مع رسائلهم، على هذا الأساس. ولا أدري ما إذا كانوا يطلبون أجرا لقاء ما تفيض به أقلامهم. وكان مصطفى أمين صاحب «أخبار اليوم» ورئيس تحريرها أول من دفع للقراء، وليس للكتّاب فحسب. وكانت زاوية القراء في الصحيفة الكبيرة وشقيقتها الأسبوعية «آخر ساعة» بعنوان «اكتبْ ونحن ندفع».
ومن الخير للكاتب المحترف، وحتى للقارئ الهاوي، أن يقبضا من الصحيفة، من أن يقبضا من مصادر أخرى، وذلك حرصا على أمانة التعبير واستقلاليته. غير أن كتّاب السياسة المحترفين لم يكونوا يقبضون مرتبا ثابتا من الصحف التي يكتبون فيها. وإنما كانوا يقبضون «على القطعة»، أي على المقالة الواحدة.
ثم تطورت الصحافة العربية. بات الكاتب السياسي المحترف يتقاضى مرتبا ثابتا. وكانت «أخبار اليوم» ثم «الشرق الأوسط» و«الحياة»، في مقدمة الصحف العربية التي أجرت مرتبات ثابتة لكتّابها. وبات هؤلاء منفصلين تماما عن المحررين والعمل التحريري الإخباري.
يبلغ الكاتب السياسي ذروة الحرفة والشهرة، إذا مزج الكتابة السياسية الجافة باللغة الأدبية. وفي «العصر الثقافي الجميل»، مزج المازني. والعقاد. وحسين هيكل. وحسنين هيكل. وغسان تويني رومانسية الأدب بواقعية السياسة. وبلغ الصحافي السوري نزيه الحكيم شأوا عاليا في هذه المزاوجة، حتى إن طه حسين كتب له مقدمة ترجمته لرواية «الباب الضيِّق» لأندريه جيد.
لكني أعترف بأن أدب السياسة لا يتمتع بخلود أدب الرواية. لماذا؟ لأن الأزمات السياسية وقائع ظرفية. فهي تندلع كالنار. ثم تنطفئ بانقضاء الظرف وتراكم الزمن. من يقرأ اليوم هيكل. وتويني. وميشال أبو جودة في الخمسينات والستينات؟! لا أحد سوى المهتمين بتاريخ الصحافة. وهواتها الباحثين عن مجد في مهنة صعبة.
وما زال بعض كتاب الأطروحات الجامعية عن الصحافة، يلاحقوني بالسؤال عن حياة وأساليب الصحافيين الكبار. وقد حاولت تغطية هذا النقص. فكتبت في «الشرق الأوسط» وغيرها سلسلة مقالات وتحليلات عن كتّاب وصحافيي مدرسة محمد التابعي الصحافية. فهم عمالقة صحافة القرن العشرين في تطوير الأسلوب.
غير أن رأيي في مدرسة التابعي أثار عتب بعض الصحافيين والكتاب الشباب في صحافة الخليج. لم أقصد النيل منهم. وآمل أن يأتي بعدي مَنْ يصفهم بأنهم عمالقة القرن الحادي والعشرين، بعد نضوج الخبرة والتجربة.
كان كتاب المدرسة التابعية أقرب إلى قلب القارئ المصري والعربي، من كتاب الصحافة السورية واللبنانية. لم يكونوا فقط كتاب سياسة. كانوا أيضا يكتبون عن تجاربهم الحياتية. ويمارسون نقد السلوك الاجتماعي، بأسلوب خفيف ضاحك. مع الأسف، غاب كتّاب هذا اللون الجميل. بات كتّاب الصحف كتّاب سياسة، وتحليلات متشابهة مكررة ومُعادة. مع كل أزمة. حتى المراسل الصحافي يظن أن مراقبة السياسة عمله الوحيد. ولا يعرف كيف يتناول ظاهرة. أو قضية. أو ملاحظة أوابد أثرية يمر بها يوميا.
الثقافة الفنية الشعبية تأثرت أيضا بفوضى التوتر السياسي والإعلامي الراهن. الضرب الغاضب الشديد، بوتيرة واحدة، على الطبل وأدوات «القصف» الموسيقي، أنهى عصر الفرح والتطريب. لكن ما زالت هناك أجيال تحن إلى سلام الحرب الباردة، من خلال التعلق بتراث الغناء الكلاسيكي والرومانسي.
ماتت أم كلثوم منذ 39 سنة. ولحق بها عبد الحليم حافظ منذ 37 سنة. وسبقهما فريد الأطرش منذ أربعين سنة. وتدق فيروز. ونجاة. وشادية بوابة الثمانين. ورحلت فايزة ووردة. وما زالت أغانيهم تنافس الأغاني الشبابية الشاحبة التي تفرضها شركات التسجيل على الإذاعة والتلفزيون. من لا يتأثر بصوت أسمهان الكريستالي المتكسر بحزن نبيل، مع أنها رحلت منذ سبعين سنة؟ ولعلي أعود إلى هؤلاء جميعا، لأتحدث بتوسع عن عصر فني رومانسي خالد، ما زالت له ذكريات في قلوب ونفوس عشرات الملايين.
هناك إذن أسباب متعددة لفوضى السياسة، وتناقضات التحليل السياسي والإعلامي. ولعل في مقدمتها تسيُّس قوى دينية منغلقة على ثقافة أحادية. وهي تحاول استخدام القداسة الدينية، في تدمير هناء وسلام المجتمع العربي والإسلامي، وتقويض حرية الرأي. والتعبير. والحوار السلمي، لدى القوى الليبرالية والشبابية.
ليس من عادتي المشاركة في «حروب» التلفزيون. هي أيضا تساهم في بعثرة الرأي العام، وإثارة حيرته، من خلال جمع الأضداد أمام الشاشة، لتختلف. لا لتتفق. مقدم البرنامج يدق على الصدر فخورا، عندما ينتهي حوار «ديكة الشغب التلفزيوني» بالتوتر. والخلاف. والشتائم.
استحالة الحرب النووية جعلت نشوب حروب تقليدية صغيرة أو إقليمية ممكنا. كما هو الحال في سوريا. وربما في العراق. ولبنان. واليمن. والسودان.
المخزون الكيماوي والجرثومي، في إسرائيل وسوريا، يزيد في خطر هذه الحروب القذرة، على السلام المدني. هناك شعوب بريئة، باتت حقل تجارب محتملة لحروب بالأسلحة الأثيرية التي تستطيع شل خدمات الحياة اليومية، كالكهرباء. والمياه. والمدارس، في مدن كبرى أو صغرى.
الحرب السورية مرشحة للاستمرار، حتى لو سقط نظام الأسد. الكتل المدنية المليونية، في دمشق. حلب. حماه. حمص... لن تقبل بحكم «جهادي» أو «إخواني». الحرمان من الحريات السياسية والشخصية سيفجر فوضى جديدة: ثورة القوى المدنية على القوى الريفية التي لا تحمل «جهاديتها» أو «إخوانيتها» قيم التسامح والتعايش التي طبعت شعوب البحيرة المتوسطية.
وهذا ما حدث في مصر. فقد ثارت قوى الشارع المحافظة والمتديِّنة، على حكم إخواني حاول تسخير القداسة الدينية، لإلغاء حرية التعبير. ولتقويض الموروث الثقافي الحديث الذي هو نتاج القرنين الأخيرين، من المزاوجة بين التراث الثقافي العربي، والثقافات الإنسانية.
سوريا هي ضحية الصراع على أوكرانيا. ترتكب أوروبا وأميركا، بفوضى و«إرهاب» آلتهما الإعلامية الجبارة، خطأ استراتيجيا. فتعرضان السلم إلى الخطر عندما تدفعان الاتحاد الأوروبي وقوات حلف الناتو، لمحاصرة روسيا باختراق بوابتها الأوكرانية. وتشتري المخابرات الغربية معارضة الشارع الأوكراني بقوة المال السياسي، فيما هما (أوروبا وأميركا) عاجزتان، بسبب الأزمة المالية، عن إنقاذ الاقتصاد الأوكراني.
لا أدافع عن بوتين. هو أيضا ظاهرة بارزة من ظواهر البعثرة والفوضى الخطرة في العالم، وفي المشرق العربي. وإلّا ما الذي يجمع بين روسيا وإيران في سوريا، سوى الرغبة بجعلها ورقة مساومة في آلة تسوية تفاوضية مع الغرب. لعل كتّاب السياسة ومعلقيها العرب الذين يظنون أنهم يخدمون سوريا بالانحياز الإعلامي إلى الغرب، في أزمة أوكرانيا، هم في الواقع يطيلون في عمر المأساة السورية سنين إضافية.
الحنين إلى سلام الحرب الباردة!
أخبار متعلقة