من المعروف لدى المؤرخين للثورات والحروب أن مرحلة ما بعد الثورات أو ما بعد الحروب تعتبر من أصعب مراحل التحول في عملية بناء الدول وما يصاحبها من تغييرات في الفكر والمجتمع بهدف الانتقال من أوضاع مضت إلى أوضاع جديدة مبشرة بوعود وآمال جميلة. وما حدث في كل الثورات يحدث الآن في ليبيا، بل إن ليبيا ربما تنفرد بواقع سياسي يفتقر إلى الكثير من مقومات وخصائص العمل السياسي العصري في قرن ثورة الاتصالات والمعلومات واختلاط المفاهيم وتزاحمها في الأذهان.
لقد وقعت في ليبيا ثورة دموية بمعنى الكلمة، وشارك فيها الشعب بمجموعات تمثل كل شرائح المجتمع، بينما ظلت مجموعات تعمل عكس الثورة. وعندما سقط رأس النظام بقيت ذيوله وآثاره تتمنى أن تفشل الثورة وأن تعود ليبيا إلى ما قبل 17 فبراير (شباط) 2011، وليس من قوانين التاريخ أن تتحقق مثل تلك الأمنيات في ثورة مثل الثورة الليبية. وبعد أن سقط النظام وانتهى وجوده السياسي بقيت آثاره وأمراضه الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والأخلاقية. ولقد وصفت الباحثة البريطانية أليسون بريجيت في كتابها «ليبيا.. ارتفاع وسقوط القذافي» تركة القذافي أو تراثه وصفا دقيقا، حيث قالت:
«ترك القذافي البلاد من دون قيادات جديدة، وبتركة ثقيلة.. ولذلك ستبنى الدولة من التراب. من تراث القذافي الحزين بعد أربعة عقود أن البلاد أصبحت في حالة مؤسفة جدا من حيث فقدان التدريب وفقدان الخبرات المؤهلة. القذافي ترك ليبيا من دون سياسيين، ومن دون خبرات سياسية.. القذافي ترك خلفه بلدا غارقا في الفساد، الفساد كان أداة رئيسة في يده..». ذلك هو بعض ما تركه القذافي، ومن هنا يتضح أن أكبر أزمة يشهدها الواقع السياسي الليبي هي أزمة غياب الكفاءات، وقد تأكد ذلك من خلال الممارسات خلال العامين الماضيين من انتصار الثورة، حيث عجزت القيادات السياسية عن معالجة ما واجهها من مشكلات أثناء عملية التحول من الثورة إلى الدولة.. عجزت عن بناء قوة أمنية تحمي بها مقراتها، وعجزت عن بناء نواة للجيش تحمي موانئها ومطاراتها عند الضرورة، وعجزت عن التحكم في صرف المال العام طبقا لأسس وضوابط مالية دقيقة، وعجزت عن تنظيم وضبط العمل الإعلامي والارتقاء به، وعجزت عن إطلاق المصالحة في أوقات مبكرة.
وبهذا الكلام لا نعني إدانة الأشخاص الذين تحملوا المسؤولية في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، ولا نعني التقليل من جهودهم وتضحياتهم، ولكن نعني إبراز الأزمة والاهتمام بمعالجتها بصورة شاملة وسريعة. ولعل أولى الخطوات هي الاستعانة بخبرات دولية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة في شكل مجموعات استشارية خاصة في صناعة القرارات الاستراتيجية وبناء المؤسسات الأمنية والجيش وإدارة المال العام، ولا عيب في ذلك، فليبيا بلد غني بثرواته ويستطيع أن يشتري مثل تلك الخبرات والكفاءات، وبهم يستطيع أن يضع خطة طموحة لتدريب مئات الآلاف من الشباب في دورات متلاحقة داخل البلاد وخارجها عند الضرورة فقط.
أما بالنسبة للقيم فرغم وجود أزمة فإنها لا تصل إلى مستوى أزمة الكفاءات. نعم هناك ضعف أصاب منظومة القيم الاجتماعية في عهد سلطة الاستبداد، غير أن عناصر كثيرة من تلك القيم لا تزال موجودة، ولا تزال تعمل وتتحرك في الأوقات العصيبة، وهي عناصر دينية اجتماعية وطنية، وقد لاحظنا حضورها في حالات عدة ممثلة في تحرك الحكماء والعقلاء لدرء ووقف الخلافات والنزاعات التي تنشب بين أطراف قبلية أو جهوية أو سياسية. وما زال المجتمع الليبي يراهن ويعتمد على أهل الخير والصلاح والإصلاح فيه، ولا تزال طائفة من المواطنين بعقولها وقلوبها ساهرة وتهب في ساعات الخطر لإنقاذ الوطن من السقوط في هوة الحرب الأهلية، وما حدث في مرات عدة آخرها ما حدث يوم الجمعة 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 دليل على أن البلاد لا تزال محصنة بقيمها الاجتماعية. ورغم كل الصعوبات التي تمر بها البلاد والتي قد تصل إلى حافة المواجهات العسكرية الجماعية فإنها لن تذهب إلى أبعد من ذلك. وبشيء من الصبر والعمل الدؤوب والاستعانة بالخبرات الدولية ستنهض ليبيا وستبنى دولة القانون بجهود رجالها ونسائها ودعم أشقائها وأصدقائها، وموقع ليبيا وثرواتها لن يسمحا بتركها مسرحا لأي قوة أو جهة تهدد الأمن والاستقرار والمصالح الإقليمية أو الدولية.
الواقع السياسي الليبي.. أزمة كفاءات أم أزمة قيم؟
أخبار متعلقة