رحم الله الأستاذ الكبير عمر الجاوي فقيد يمن أحبه وأراده بقوة.. يمن عاش له ومات في سبيله.. يمن بلا فوارق أو تمايز أو استقواء .. بلا سطو أو نهب أو مصادرة أو الغاء .. بلا رعب أو خوف أو إلغاء .. بلا ضم أو الحاق أو استعلاء. يمن مدني حضري حر آمن مستقر دون إستثناء .. يمن لا فضل ولا تفاضل فيه أو عليه لأحد على أحد إلا باخلاص العمل والعطاء، وصدق وشرف الانتماء. يمن أنفق كل سني عمره الذي ناهز خواتيم قرن وبواكير آخر يتمثله ويعليه بسلوكه وفعله، ويدعو إليه بوجدانه، ونبضات قلبه، هازجاً مترنماً بعظمته ومكانته.
يمن كان وسيظل تحققه موصولاً به معقوداً بنواصي اطروحاته ومواقفه وآرائه ومشاركاته. أقول هذا عنه لا لأنه عمر الإنسان البسيط المتواضع المتعاون والمتسامح والخدوم، الممتلئ الوجدان والخاطر والبال ولا لكونه القائد والسياسي البليغ المقنع، المنافح والصريح والحكيم والمبدع بأقواله وكتاباته وأدبه ونقده. وانما لأنه عمر الجاوي المثال والنموذج في معاني الوطنية والالتزام والتضحية والاقدام والإيثار الذي لم يفتعل أو يتصنع أو يوظف أو يستغل هذه المناقب والخصال للتكسب والارتزاق، ولم يمتلك ويكتسب تلك القدرات والمعارف طمعاً في جاه أو منصب. بل كانت تلك المناقب والمآثر طبعاً فيه وأصلاً في تكوينه واخلاقه، فكان كما هو عمر بالغ التأثير، عميقاً صادق الفعل والأثر، بعيد الوقع والنظر ان غاب أو حضر، يمتد نفوذه وزخمه واحترامه وبقاء مكانته من ثبات ورسوخ بيانه وحجته، وسمو وترفع نفسه، وخلو ديدنه من ضعف أو عيب يكمن فيه مقتله أو نفيه أو حرفه عن وجهته، لهذا كان عمر كلي الحضور والأثر يتساوى في ما يتركه من دروس وعبر في من عاش معه ومع من سمع به أو عرفه أو جلس إليه أو قرأه.
أقول هذا عنه لأنني لست الوحيد بعد مضي ما يربو على عقد من الزمان من رحيله ممن لا ينفك يلازم ذاكرتهم في فرح أو حزن وعند أي عارض أو حادثة من الحوادث الكثر التي تحيق بكل أوقات أيامنا زارعة فينا مزيداً من الآلام والفجائع والمخاوف القاتلة والمنفرة والمحبطة، التي تستهدف ببشاعتها وقبحها حياة واستقرار ومعيشة ووجود ووعي وثقافة وماضي وحاضر ومستقبل المجتمع اليمني. نوائب ونوازل ما أن تحل في ساحة أو مدينة أو محافظة أو شارع أو زقاق أو تجمع أو حزب أو مرفق أو وزارة أو بحر أو بر أو سماء متحدية مستفزة محيرة مشوشة مستعصية على التقبل والفهم، حتى يكون عمر الجاوي أول ما يغشى ناظري بغليونه وعكازه وقامته المربوعة وخطواته المتئدة بالغاً سمعي صوت كلماته وأمثاله وحكمه تالياً علي ما تيسر من سطور مقالاته وتحليلاته ومواقفه، أتأمله وانصت إليه وهو يشاركني الرأي في هذه الحادثة أو تلك كاشفاً غموضها محدداً اسبابها ومداخل حلولها، مبدداً بذلك ضيقي وترددي وأوهامي وبعض شطحاتي، معيداً بذلك إلي توازني وتماسكي ووضوحي وثقتي بقدرتي على الصمود والمواجهة والحسم.
وبقدر ما بات يشكله من أهمية، حضور واستحضار عمر الجاوي الكثيف والملهم مع كل ما يجري في واقعنا اليوم المملوء بالعجائب والغرائب، بالقدر نفسه كنت ولم أزل اقف عاجزاً عن وصف عمق هذا الترابط الفكري للجاوي في فهم وإدراك مصاباتنا وتقديمها للقارئ ضمن ما أحاول كتابتها من سطور محاولاً مداراة عجزي هذا بترك هذه المسؤولية لمن هم أقدر مني على عكس هذه العلاقة وكشف ابعادها بشكل أشمل وأعمق، من محاولتي هذه التي أقدم عليها بكثير من الحذر خوفاً من أن لا أوفق في تقديم ملمح من حضور الجاوي المستمر معنا مشاركاً ايانا آلامنا واحزاننا وتفاؤلاتنا في كل شاردة وواردة صغيرة أو كبيرة منها هذه الجزئية التي ما أن وقفت عليها من خلال قراءة خبر نشر مطلع هذا الشهر ديسمبر منسوب إلى الحكومة التوافقية تحذر فيه وتستنكر اعمال السطو على اراضي جزيرة سقطرى، وانها قد وجهت الجهات المعنية بضبط من يقومون بهذه الاعمال وتقديمهم للقضاء لنيل عقابهم العادل، وبغض النظر عن متى وكيف سيتم ضبط هؤلاء ومن هم وما علاقتهم باعمال السطو والبسط ونهب الأراضي في المحافظات الجنوبية عموماً ومناطق تهامة خصوصاً فان ما يعنيني هنا هو أنه بمجرد وقوفي على هذا الخبر كان عمر الجاوي كعادته أول من يطرق باب ذاكرتي ليعيدني معه إلى عامي 87، 1988م، عندما راح يتردد على جزيرة سقطرى التي كان ينزل فيها عند صديقه أحمد محمد القباطي مدير أمن مديرية سقطرى حينها والذي كان يرافقه طول فترات بقائه هناك، وكيف تحول الجاوي من أول زيارة لهذه الجزيرة في جلساته ولقاءاته وكتاباته إلى داعية لاحترام هذه الجزيرة وانسانها مستنكراً جهل الكثيرين بمكانتها وأهميتها الجمالية والبيئية وبروعة وعظمة تنوعها المناخي والحيواني والنباتي المبهر، محرضاً الجهات المسؤولة في عدن حينها للقيام بواجبها الذي لو لم تقم إلا به لكفى تجاه هذه الجزيرة وانسانها وتوثيق ما بها من عادات ولغة واسماء وجبال وسهول وشواطئ ومتنفسات، كما أنني لا أستطيع نسيان مدى حنقه وغضبه وهو يتحدث عن النفر من الجنود التابعين للحامية هناك كانوا قد اعتادوا التوجه في ساعات ما بعد الظهر إلى قبالة مغارة توجد في منطقة نوجد ينصبون عند مدخلها بعض الزجاجات الفارغة ثم يتناوبون في قنصها وكيف كانوا بعملهم هذا يصيبون الكثير من الخيوط الكلسية المتدلية من سقف الجرف إلى الأرض محطمين بذلك ومشوهين أحد أهم وأجمل لوحات الطبيعة واضعين بلا وعي أو مسؤولية نهاية عبثية لاعمدة كلسية تشكلت عبر مئات السنين، بعشرات المليارات من قطرات قادمة عبر سقف المغارة طالباً التدخل من الجميع لوقف هذه الحماقات من خلال وضع قوانين تحمي ليس فقط هذه الكهوف وما تتعرض له تشكيلاتها الكلسية دائمة التوهج بضوء الشمس وانما كل ما تحتويه الجزيرة من اشجار وطيور وحيوانات وماكتنزها انسانها من لغة وعادات وتقاليد يطول الحديث عنها وكأنه انما كان بدعوته هذه وحنقه ذاك وخوفه على هذه الجزيرة يخشى من حلول مثل هذا اليوم الذي امتدت ومازالت ايادي العبث والنهب والسطو إلى هذه الجزيرة محملاً ايانا جميعاً المسؤولية في وصول الأمور إلى هذا الحد .. داعياً ايانا إلى عدم مواصلة الصمت حتى يتوقف هذا العبث من التمادي وان يختفي ويتراجع تماماً من حياتنا لأن بقاءه لا يستهدف مجرد أرض وشجر أو مغارة أو طير أو حيد بحري أو ملمح طبيعي وانما يستهدف تشويه وقهر وإذلال انفسنا وارواحنا وطبيعتنا كبشر.
سقطرى والجاوي عمر وذاكرة وطن يتعثر
أخبار متعلقة