منح الله تعالى البشر الحرية في الإيمان به أو الكفر بذاته العلية، والدليل على ذلك واضح في حياة البشر وفي أقوالهم وأفعالهم في تاريخهم الماضي والحاضر..
والقرآن- كلام الله العزيز- فيه الإثبات على حرية البشر المطلقة في الإيمان والكفر، يتضح ذلك في قصص القرآن عن المشركين كما يتضح أيضاً في حوار القرآن مع المشركين لإقناعهم بالعقل والمنطق، ولو لم يسمح الله لهم بالحرية ما كان ذلك الحوار وما كانت محاولة الإقناع، بل أن القرآن يؤكد على حرية البشر في أن يؤمنوا أو أن يكفروا، وفي المقابل فإن مسئوليتهم تجاه هذه الحرية تتجلي يوم الحساب حيث سيحاسبهم رب العزة على اختيارهم، يقول تعالى: ﴿«وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً» (الكهف29).
بل إن القرآن الكريم لم يصادر أقوال المشركين في العيب في ذات الله، فاليهود قالوا ﴿إن الله فقير ونحن أغنياء﴾، وقالوا ﴿يد الله مغلولة﴾ وقال مشركو مكة وهم يرفضون إعطاء الصدقة ﴿«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ»﴾ (يس 47).
أثبت القرآن هذه الأقوال ولم يصادرها، فصارت مع الرد القرآني عليها ضمن آيات القرآن التي يتعبد المسلم بتلاوتها.
ومن الطبيعي أن يرد القرآن- كلام الله العزيز- على الأقوال التي تخالف دين الله تعالى، وهذا حق الله تعالى، وليس فقط لأن الله تعالى هو رب البشر وخالقهم وصاحب الدين الحق ولكن لأنه أيضاً تعامل مع البشر بمنطق العدل، فقد أعطاهم حرية الإيمان والكفر، وحرية إعلان الكفر وحرية العيب في ذاته الإلهية العليا والتقول على الله تعالى، وفي مقابل ذلك فإن من حقه أن يصفهم بالكفر والعصيان وأن يرد على افتراءاتهم وأقاويلهم وينفي عن ذاته العلية اتخاذ الولد والشريك، وتلك قضايا تخصه جل وعلا، ومن حقه الرد عليها..
إلا أن عدل الله تعالى تجلى في التعامل مع طوائف البشر. فحين يحكم بالكفر فإنه تعالى يضح حيثيات الاتهام وأسباب الوصف فيقول مثلاً ﴿«لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾. ﴿«لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾» (المائدة 72، 73).
فالحكم من الله ليس عاماً وإنما هو خاص بمن يقول ذلك القول، وفي نفس الوقت فإن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً من المؤمنين واليهود والنصاري والصابئين فهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يقول تعالى: ﴿«إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾» (البقرة62).
ويقول تعالى: ﴿«إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾» (المائدة 69).
أي أن الله تعالى ليس منحازاً لأحد، فمن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فهو من أولياء الله أصحاب الجنة، ومن يجعل لله ولداً أو يجعل إلهاً مع الله فإن الله تعالى يحكم عليه بالكفر..
وذلك هو ما يخص الله تعالى، فهو صاحب الدين وهو صاحب ومالك يوم الدين وهو الذي يرد على البشر إن أحسنوا في العقيدة أو أساءؤوا فيها.
إلا أن الله تعالى لم يعط أحداً من البشر الحكم على الآخرين الأحياء بالكفر، بل أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكون حوارهم بالحكمة والموعظة الحسنة مع معاصريهم ومع تأجيل الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة ، وذلك ما كان مأموراً به خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام...
فالله تعالى يأمر بأن يكون الجدال مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن، يقول تعالى: «﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»﴾ (العنكبوت 46).
فالجدال مع أهل الكتاب ممنوع إلا إذا كان بالتي هي أحسن... أي كان نقاشاً موضوعياً بالحجة دون إساءة، أما «الذين ظلموا» فلا جدال معهم حتي لا يتطور الأمر إلى إساءة متبادلة، والله تعالى نهى عن الجدال الذي ينتهي إلى إساءة ويقول: «﴿وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾» (الأنعام 108). وعن الظالمين- أو بمفهومنا المتعصبين- يقول تعالى للنبي قال تعالى: »﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾» (الحج 68، 69). أي أنه لا مجال للجدال العقيم مع المتعصب، والأفضل الإعراض عنه وذلك شأن المؤمن دائماً، ويقول الله تعالى في حال المؤمنين مع المتعصبين المتحفزين الظالمين ﴿«وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾» (القصص 55).
وبالمناسبة فتلك الآية الكريمة نزلت في حال مؤمني أهل الكتاب ونزلت مثلاً لكل مؤمن في الحوار أو الجدال بالتي هي أحسن وتحاشي الجدل مع المتعصبين.
ولذلك فإن الجدال بالتي هي أحسن هو سمة الحوار بين المؤمنين بالقرآن ومؤمني أهل الكتاب وذلك معنى قوله تعالى «﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾».
وحتي لا يقع المسلم في اتهام أهل الكتاب بالكفر فإن القرآن يفرض صيغة محددة للحوار فيقول تعالى «وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾» أي نؤمن معاً بالله الواحد ونؤمن بما أنزل إليكم وما أنزل إلينا، ونحن له مسلمون، ولم يقل مثلاً «وأنتم كافرون» لأنه ممنوع اتهام المسلم لغيره بالكفر...
ولم يأت الأمر مثلاً بأن يستشهد المؤمن في حواره مع أهل الكتاب بما قاله رب العزة عن أولئك الذين قالوا إن الله تعالى ثالث ثلاثة أو أن الله هو المسيح ابن مريم.. لأن ذلك هو قول الله تعالى ذاته في الرد عليهم، أما نحن فما علينا إلا أن نحاور بالتي هي أحسن ونرجئ الحكم في العقائد إلى يوم الدين يوم الحساب أمام الله تعالى..
وقد تحدثت سورة آل عمران عن ميلاد عيسي عليه السلام وبعثته ثم قالت: ﴿«ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ. إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ﴾» (آل عمران 58: 60).
وبعد ذلك التوضيح عن بشرية المسيح عليه السلام ورسالته فماذا يكون موقف النبي إذا جاءه أهل الكتاب يجادلونه؟ هل يتهمهم بالكفر؟ هل يرميهم بالضلال؟ هل يتوعدهم بالجحيم؟..
تعالوا بنا نقرأ الآية التالية لنعرف الإجابة في تلك السورة المدنية التي نزلت في عصر قوة المسلمين وشوكتهم ﴿«فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ﴾» (آل عمران 61).
أي من جادلك في طبيعة المسيح من بعد ما جاءك فيه من العلم أي بالقرآن فادعهم إلى المباهلة، أي الاحتكام إلى الله تعالى في الدنيا، بأن يخرج الفريقان ومعهم الأبناء والنساء ويبتهلون إلى الله تعالى أن يلعن الكاذب منهما.. لم يقل القرآن للنبي إذا جادلوك فاحكم عليهم بالضلال والكفر ودخول الجحيم.. ولكن ابتهل إلى الله لكي تكون اللعنة من نصيب الكاذب من الفريقين، ومن الطبيعي أن كل فريق يعتقد الصدق في نفسه..
أي أنه تصعيد وتأجيل للحكم إلى رب العزة لأنه وحده هو الذي يحكم بالكفر أو بالإيمان على عباده البشر، أما النبي فلا يملك أن يحكم بكفر أحد.
والقرآن في دعوته لأهل الكتاب يضع أسلوب الحوار الراقي الذي يجب على المسلمين اتباعه، ويقول تعالى للنبي قال تعالى: ﴿«قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ﴾» (آل عمران 64).
فهذا هو الخطاب الراقي لأهل الكتاب أن ندعوهم إلى كلمة سواء نلتزم بها سوياً، أن نعبد الله وحده دون شريك وألا نتخذ كهنوتاً وأرباباً من البشر، فإن رفضوا فلا نتهمهم بالكفر ولا نتحدث بأسمهم أو باسم الله ولكن نتحدث باسمنا فقط، فنقول لهم اشهدوا إذن بأننا أسلمنا لله وحده..
لم يقل: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وأنتم كافرون، لأنه ليس من حق المسلم اتهام غيره بالكفر، وحسبه أن يعلن خضوعه لله ، وحسبه شرفاً أن يكون فعلاً عند الله كذلك..
والخلاصة أن الله تعالى هو وحده صاحب الحق في أن يقول عن بعض أهل الكتاب ﴿«لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾».
وهو وحده تعالى صاحب الحق أن يقول عن أهل الكتاب ﴿«لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ﴾» (آل عمران 113، 114).
الله وحده هو الذي ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ﴾ وهو الأعلم بحقيقة الإيمان عند الأفراد والطوائف والأمم، والله تعالى يقول ﴿«وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ﴾» (النساء 25).
أما نحن البشر فإذا كنا ندعي الإيمان حقاً فيجب أن نلتزم بأوامر الله تعالى في أن نقول للناس حسنا ﴿«وقولوا للناس حسنا﴾» (البقرة 83).
وأن نجادلهم بالتي هي أحسن، وهل هناك أروع من قوله تعالى في آداب الدعوة والحوار ﴿«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَي اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ﴾» (فصلت 33، 34).
وقد يقول قائل:- إن الله تعالى أمر رسوله أن يقول ﴿«قل يا أيها الكافرون﴾» أي اتهمهم بالكفر وقال لهم ﴿يا أيها الكافرون﴾.
والجواب: إن أعداء النبي في مكة كانوا يفخرون بكفرهم ولم يعتبروا ذلك الاتهام بالكفر نقيصة بأي حال، بل دأبوا على اتهام النبي بالسحر والجنون والكذب واعتبروا الإيمان بالقرآن جريمة تستوجب الإيذاء والحرب..
وإذن فإن قول النبي لهم ﴿يا أيها الكافرون﴾ ليس فيه إساءة لهم بل هو خطاب لهم بما يحبون وبما يفخرون، والمهم إن فحوي الخطاب تقرر حرية العقيدة في آيات السورة التي تنتهي بقوله ﴿«لكم دينكم ولي دين»﴾.
والأهم من ذلك هو آداب الحوار مع أولئك الذين كانوا يفخرون بكفرهم ويعتبرون الإيمان بالله ورسوله، هل كان الله تعالى يأمر رسوله في الحوار معهم أن يتهمهم بالضلال ويحكم عليهم بدخول النار..
لنقرأ أسلوب الحوار الذي أمر الله به رسوله ﴿«قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًي أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ﴾» (سبأ 24) لم يأمره- وهو رسول الله- أن يقول للمشركين «أنا على هدي وأنتم في ضلال، وإنما أمره أن يقول أحدنا على هدي والآخر في ضلال.
وتقول الآية التالية ﴿«قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾» لم يقل: لستم مسئولين عن إجرامنا ولسنا مسئولين عن إجرامكم.
بل نسب الجرم لنفسه- وهو النبى- ولم ينسب إلى المجرمين إلا مجرد العمل.. إلى هذا الحد بلغت آداب الحوار مع المشركين المعاندين، وتقول الآية التالية «﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ﴾» (سبأ 26).
أي يؤجل الحكم بينهم وبينه إلى لقاء الله تعالى يوم القيامة.
وذلك بالنسبة للنبي في حواره مع المشركين..
فلم يكن من خصائص النبي أن يتهم أعداءه الأحياء الكفر.. وبالتالي فلم يكن من خصائصه أن يتهم مسلماً حيا بالكفر..
ومن الطبيعي أن من يتهم غيره بالكفر يضع نفسه فوق النبى، بل ويتقمص الدور الإلهي الذي هو لله وحده..
بين الجهاد والتكفير
الجهاد بالقرآن الكريم سلميا من أهم ملامح الجهاد الاسلامى، يقول تعالى « ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا. 51 - 52». الفرقان أن القرآن هو الرسول القائم بيننا طالما ظل هناك قرآن يتلى، وطالما هو محفوظ بقدرة الله جل وعلا الي قيام الساعة. ومهمة القرآن أن يظل حجة الله تعالى على الناس الي قيام الساعة. النبي بشر مات ولكنه كرسول قام بتبليغ القرآن الذي سيظل رحمة للعالمين من عهده الي آخر دقيقة في هذه الدنيا. محمد كبشر كان محدودا بالزمان والمكان والقرآن بعده يظل علما للهداية وحكما على الناس - خصوصا المسلمين ـ اذا تلاعب بهم الشيطان . والشيطان لم يقدم استقالته . سيظل يؤدي مهمته في اضلال الناس الي قيام الساعة.
القرآن الكريم شرح مهمة ابليس وهي اضلالهم عن الطريق المستقيم أي وحي الله تعالى الحق، وخداع الناس بالأمنيات الباطلة أي بدخول الجنة مهما عصوا «الأعراف16-17» «النساء 120-118». وهذه المهمة الشيطانية لها وسائل محددة تماثل وسائل الهداية ونقصد بها الوحى. فكما يوحي الله تعالى للأنبياء كذلك يوحي الشيطان لأوليائه. عن القرآن يقول تعالى :« وانه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين»... « وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون ، انهم عن السمع لمعزولون.».وبعدها يقول تعالى عن الوحي الشيطاني «هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك أثيم . يلقون السمع وأكثرهم كاذبون.«الشعراء 195-192،،،210 ـ 212 ،، 223-221.»
تختار الشياطين أكثر البشر كذبا واثما «أفاك أثيم» ليتسلط على الناس ببث أكاذيبه يقنعهم أنها من عند الله تعالى أو رسوله. يسميها وحيا أو مناما أو هاتفا في يقظة أو منام. ويلقي اليه الناس اسماعهم ، وأكثرالمستمعين كاذبون يروي ويحكي عنه مصدقا له ،أو يكتب عنه ما يقول وينسخها أي يكتبها ويشاء الله تعالى أن يسمح بهذا التصرف فتتكاثر كتب الوحي الكاذب ونسخها «الحج 55-52». اولئك هم اعداء الأنبياء أو شياطين الانس بتعبير القرآن الكريم .يقول تعالى عنهم:« وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الي بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون». ثم يقول تعالى عن المستمعين المبهورين بهذا الوحي الضال:«ولتصغي اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون.» ثم يجعل الله تعالى القرآن الكريم حكما على هذا الوحي الكاذب فيقول:« أفغير الله ابتغي حكما؟ وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصلا ؟» . الأنعام 112-113
وهكذا يكون الجهاد بالقرآن ضد اولئك الذين افتروا على الله تعالى كذبا وكذبوا بآياته، وهم الذين جعلهم الله تعالى اظلم الناس جميعا: «فمن أظلم ممن افتري على الله كذبا أو كذب بآياته». الاعراف 37 يونس 17
الجهاد هنا فكري عقلي بالقرآن ليواجه الأكاذيب التي ينسبونها لله تعالى ووحيه ورسوله. ليس موجها للأشخاص مثل الجهاد القتالي ولكنه موجه للوحي الكاذب نفسه يحتكم فيه لكتاب الله تعالى، محذرا الناس منه، وللنصح والتذكير وليس للسب والتكفير. ومن منتجات هذا الوحي الكاذب حد الردة موضوع هذا الكتاب. وما نفعله هنا هو ذلك الجهاد القرآني السلمي للتحذير وليس للتكفير.
قبل طرد ابليس من الملأ الأعلي - بسبب عصيانه الأمر الإلهي بالسجود لآدم - قال ابليس متحديا رب العزة جل وعلا عن ذرية آدم ـ أي عنا :«..لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين . «الأعراف17-16». ومع أن الله تعالى كشف الاعيبه وأوضح وسائله الا أنه ينجح دائما في خداع الأكثرية من البشر حتي الآن والي قيام الساعة ، والسبب انه لا يقدم لهم نفسه كشيطان عدو للرحمن ولكن من خلال اسلام مغشوش يحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا عبرأحاديث منسوبة لله تعالى ورسوله الكريم، ولا تخلو من زخرف القول وما تشتهيه النفس وتتمناه. وهنا يكون جهادا واجبا أن نبرئ الاسلام من هذا الزيف باللجوء للقرآن والاحتكام اليه في هذا الغش والزيف املا في هداية المخدوعين بزخرف الشيطان وغروره.
والله تعالى أخبر مقدما في القرآن الكريم بما سيقوله للبشر الضالين يوم القيامة وقد خدعهم ابليس جيلا بعد جيل بسبب التقليد وعبادة المتوارث والتراث دون فهم او تعقل. سيقول تعالى لهم جميعا يوم القيامة يذكرهم بمانسوه « ألم أعهد اليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم. ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون.»»يس 60 - 63 . وفي جهنم سيجدونه بينهم : « وقال الشيطان لما قضي الأمر ان الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان . الا ان دعوتكم فاستجبتم لى، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم». «ابراهيم23» لم يدعهم بنفسه أو بصوته وانما بلسان اتباعه الذين ينشرون وحيه الكاذب المناقض لكتاب الله تعالى... وحتي ننجو من هذا المصيرلا بد من عرض عقائدنا على كتاب الله لننظف منها الأحاديث المفتراة ، وهذه وظيفة العلماء الذين قال الله تعالى عنهم«يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» المجادلة 11». « وهي أيضا وظيفة الأشهاد الذين يجاهدون بالقرآن سلميا في هذه الدنيا لأظهار الحق وازهاق الباطل .وقد وعدهم الله تعالى بالنصر في الدنيا وأن يكونوا شهداء على أقوامهم في الآخرة «انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار». «غافر 51-52».
والخلاصة هنا أن الجهاد لتوضيح الحق القرآني وتبرئة الاسلام من مفتريات الشيطان لا صلة له بالتكفير لأنه يواجه العقائد ويسعي لانقاذ الأشخاص من الضلال بالقرآن وليس لتكفيرهم..
أما الكهنوت فله شأن آخر، فمن طبيعة الكهنوت أن يدعي التحدث باسم الله، ولذلك فإنه حيث يوجد الكهنوت يوجد اتهام بالكفر وتوجد محاكم التفتيش، وتوجد صكوك الغفران، وليس في الإسلام كهنوت، ولنتذكر أن الله تعالى دعا أهل الكتاب لنبذ الكهنوت حين قال «﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ﴾» (آل عمران 64).
وذلك هو واقع الإسلام.. لا مجال فيه للأرباب والكهنوت والوسائط، أما واقع المسلمين التاريخي فقد عرف تقديس الأولياء والعلماء والأئمة، بحيث أصبح من المقرر أن انتقادهم يعتبر هجوماً على الإسلام. وتلك نفس عقيدة الكهنوت الذين يعتبرون أنفسهم وأئمتهم الممثلين للدين والمتكلمين باسمه.
ولذلك فإنه من الإنصاف للإسلام أن نبرئه من أعمال المسلمين التي تخالف كتاب الله العزيز.التبرئة من «اعمال» وصفات وعقليات وليس تكفير اشخاص أحياء.
والخطورة في وجود الكهنوت أنه حين يحكم بكفر إنسان يقيم له المحاكم التفتيشية ويحكم عليه بالقتل.. وتلك مخالفة أخري لتشريع القرآن فالنبي نفسه لم يحدث أن أقام محاكم تفتيش للمنافقين في المدينة وقد كان فيها الحاكم المطاع، وكان المنافقون يمثلون المعارضة السياسية والدينية، وكانوا يتآمرون عليه في أوقات السلم وأوقات الحرب، بما يستوجب في الدولة الديمقراطية أن يحاكموا بتهم قد تصل إلى درجة الخيانة العظمى.
والتاريخ يثبت أن محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في العقيدة يأتي دائماً في العصور التي يسيطر فيها الكهنوت وتقديس البشر من الأئمة والأولياء والأحبار والرهبان لارغام الآخرين على الاستسلام لهذا الضلال، بينما ينعدم ذلك في عصور التدين الصحيح المرتبط بحرية التدين وعدم الاكراه في الدين.
ففي عصر الرسول والخلفاء الراشدين لم يعرف المسلمون محاكم التفتيش أو حد الردة المزعوم.. مع أن الدولة البيزنطية كانت تضطهد الأقباط المصريين وتقيم لهم محاكم التفتيش بسبب الخلاف في طبيعة المسيح عليه السلام، لذلك كان ترحيب المصريين بالفتح العربي لأنهم كانوا يتوقون لمن ينقذهم من الاضطهاد الروماني الدينى..
ثم ما لبثت العدوي أن انتقلت للمسلمين في عصور الاستبداد والخلفاء غير الراشدين فعرف المسلمون محاكم التفتيش وحد الردة وذلك لأسباب خاصة لا شأن للإسلام بها، بل هي في الدفاع عن مقولات الكهنوت الباطلة من تقديس البشر وتسويغ الاستبداد الديني والسياسى.
إن الله تعالى لم يضع تشريعاً لمعاقبة الذين يسارعون في الكفر بعد الإيمان لأنهم كما قال الله تعالى ﴿لن يضروا الله شيئا﴾.
أما الكهنوت الديني والسياسي فهو يلجأ لمعاقبة الخصوم لأن أولئك الخصوم سيضرونهم شيئاً وأشياء..
والعادة أن الكهنوت يقوم على أسس خرافية تجافي العقل وتعارض الحق وتنافي دين الله تعالى، وحيث تنعدم الحجة فالسبيل الوحيد هو استعمال القوة.. ولذلك يقيم الكهنوت يوماً للحساب قبل يوم الحساب ويقعد محاكم التفتيش قبل يوم القيامة ويزعمون أنهم يحكمون باسم الله مع أنهم في الحقيقة يغتصبون حقوق الله..
لقد وضعوا تشريعات لمحاكم التفتيش تحت عنوان «استتابة المرتد».
وأعطوا أنفسهم حق الاستتابة. مع أن التوبة لا تكون من العبد إلا إلى ربه وحده فالله وحده هو الذي يتوب على التائب ولم يعط الله تعالى حق الاستتابة لغيره.
إن الله تعالى يقول للمؤمنين «﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾» ويقول «﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَي اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً﴾» .
والله وحده هو الذي يتوب على النبي والمؤمنين «﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ﴾» (التوبة 117).
وليس للنبي نفسه حق الاستتابة أو غفران الذنوب والله تعالى يقول للنبي «﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾» (آل عمران 128، 129).
ولأنه لا إله إلا الله فإنه لا يتوب على البشر ولا يملك الاستتابة إلا الله وحده وبذلك أمر الله رسوله أن يقول «قُلْ هُوَ رَبّي لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾» (الرعد30).
أي إليه وحده أتوب..
وذلك ما كان النبي يقوله..
أما الكهنوت فيرفع نفسه فوق النبى، فإذا كان النبي ليس له في الأمر شيء فللكهنوت كل شيء، وإذا كانت الاستتابة والتوبة على البشر ومحاكمتهم على عقائدهم لله وحده فإن الكهنوت يجعل نفسه شريكاً مع الله ويعطي لنفسه حق محاكمة خصومه وحق عقابهم على آرائهم وأفكارهم التي تخالف أراء الكهنوت تحت عنوان «استتابة المرتد».
موقف القرآن من التكفير
أخبار متعلقة