تمهيــــد :
إن تنظيم (حزب) (الإخوان المسلمين) لم تقم له قائمة في أي وقت من الأوقات مثلما يحدث الآن، ولكن القيادات الحكومية والعسكرية والحزبية فشلت في عمل المواءمة المناسبة للتوفيق بين ما هو مقنن وما هو محظور في ظل مناخ الحريات والحراك السياسي الذي نعيشه.
ويعتقد كثيرون أن الحل العسكري أو القمع البوليسي هما الكفيلان باجتثاث آفة الإرهاب وتوفير الأمن للوطن والمواطنين، وحقيقة الأمر أن هذا لا يمثل إلا نسبة بسيطة في منظومة الحل، ذلك أن جذور الإرهاب الفكرية تشكل عاملاً خطيراً في نموه وصيرورته سرطاناً يهدد المجتمع المحلي والدولي.
وهذه الجذور أمست ضاربة أطنابها في كافة نواحي المجتمع اليمني ابتداءً بالمدارس مروراً بالجامعات ووصولاً إلى المساجد، فمن أهم أسباب تفشي الأفكار الظلامية والإرهابية في اليمن تغلغل الآراء الصحراوية المتخلفة فيها وعلى رأسها معظم أفكار الاتجاه الوهابي وفتاواهم التي يتم حشو عقول اليمنيين بها عبر الوسائل والأجهزة المذكورة.
إن ما دفعني لكتابة هذا الموضوع هو موجات التكفير التي طالت وما تزال عدداً من الأدباء والكُتّاب والمحامين والأكاديميين في أوساط المجتمع اليمني، وغايتي هي الدفاع أولاً عن الدين الإسلامي الحنيف الذي كفل حرية الفكر والعقيدة، ثم، ثانياً، عن ضحايا التكفير الذين يتزايد عددهم يوماً إثر آخر.
التشبث بالماضي والتحولات الأليمة نحو المستقبل :
لا يقتصر نشاط جماعات التكفير والإرهاب والتطرف على سعيها الدؤوب للحيلولة دون الإبداع العقلي مكتفية بالنقل العقيم وحصر النشاط الفكري في غياهب ظلام العصور المتخلفة.
بل إن نشاطهم العقيم يمتد إلى محاولات أغلبهم المستمرة في مقاومة التغيير المنشود، ذلك أن التغيير يؤدي إلى ضياع مصالح كثير منهم، لكونهم يخشون المنافسة والشفافية، فهم يعانون من عدم الثقة في قدراتهم وإمكانياتهم الشخصية لذا فهم يهابون المستقبل بما يحمله من تحديات ومفاجآت.
إننا في اليمن نلجأ إلى الماضي من خلال استدعاء بعض الوجوه القديمة في السلطة، ونبحث عن حلول قديمة من خزائن (خردواتها) التي تعود لقرون خلت، إلى جانب اعتماد حلول أمنية لمواجهة الاحتجاجات والأزمات، وهو ما يؤدي، عادة، إلى مزيد من الأزمات واستفحال الأمور.
لهذا لا بد من الاعتماد على الكفاءات العلمية الشابة وإيجاد حلول مناسبة تتمثل في ضرورة مسايرة التطورات والتكيف مع الواقع الجديد، إذ أن أفكار وممارسات الماضي ليست بالضرورة صالحة اليوم، وأن الأجيال الصاعدة التي عرفت تطوراً كبيراً من حيث وعيها وأفكارها، يجب احترامها وأخذها بعين الاعتبار.
طوفان التطرف وموجات التكفير :
الملاحظ أنه في الآونة الأخيرة تم تكفير عدد من الناشطين والمحامين والموظفين منهم على سبيل المثال (جمال الجنيد) الذي يعمل موظفاً في وزارة العدل، وهو ثاني موظف في ذات الوزارة يتعرض لنسبة الكفر إليه استجابة لدعوى احتساب قدمها أحد موظفي الوزارة إلى النيابة، الذي يعمل أيضاً في ذات الوزارة وقد سبق توجيه ذات التهمة للأستاذ (علي السعيدي) والذي تمت تبرأته من قبل القضاء، كذلك تكفير المحامي (سليمان الأهدل) وابنه (عبدالرحمن الأهدل) استناداً لفتوى رجال دين يتبعون تنظيم الإخوان المسلمين في محافظة الحديدة.
إن التطرف مؤداه سوء الظن بالغير والنظر إليهم من خلال أخطائهم، إن وجدت، مُكَبَّرة عما هي عليه في الواقع، فالقاعدة في التطرف هي الاتهام بل والإدانة، خلافاً لما تقرره الشرائع السماوية والأرضية من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
ليس ذلك فقط بل إن الجامعات الحكومية والخاصة وحتى مجلس النواب، تعم فيها الأصوات المنادية بإلغاء أو تعديل بعض النصوص والقوانين اليمنية، كالقانون التجاري وقانون العقوبات، لاحتوائها، حسب أنصار التخلف وأرباب التطرف من الجماعات المتأسلمة، على مخالفات خطيرة لأحكام الشريعة الإسلامية، ونسوق للتدليل على ذلك على سبيل المثال (مشروع قانون العقوبات) الذي تقدم به ممثلو حزب التجمع اليمني للإصلاح إلى (مجلس النواب) والذي يتعارض أغلبه - إن لم يكن كلية - مع شريعتنا الإسلامية السمحاء وروح التسامح في الإسلام كذا سياسة الدولة ومقتضيات التطور ومسايرة العصر الحديث، فبالرجوع إلى قانون العقوبات النافذ رقم (12) لعام 1994م نجد أن المشرع اليمني قد نص في المادة (259) الخاصة بجريمة الارتداد وعقوبتها على ما يلي:
((كل من ارتد عن دين الإسلام يعاقب بالإعدام بعد الاستتابة ثلاثاً وإمهاله ثلاثين يوماً ويعتبر ردة الجهر بأقوال أو أفعال تتنافى مع قواعد الإسلام وأركانه عن عمد أو إصرار فإذا لم يثبت العمد أو الإصرار وأبدى الجاني التوبة فلا عقاب)).
فمقتضى النص أنه لا عقوبة في حالة التوبة، وهذا يتوافق وغاية النص كما وروح الشريعة الإسلامية بالتيسير على الناس لا التشدد والتعصب عملاً بقوله تعالى: ((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)).
وحينما طالعت ما هو وارد في مشروع التعديلات لقانون العقوبات الذي تقدم به عدد من الأعضاء المنتمين لجماعة حزب (الإخوان المسلمين) بشأن هذه المادة صُعقت لهول ما ورد، إذ جاء فيها التالي:
((كل من ارتد عن دين الإسلام يعاقب بالإعدام بعد الاستتابة ثلاثاً، ويعتبر ردة الجهر بقول أو فعل يتنافى مع قواعد الإسلام وأركانه عن عمد وإصرار، فإذا لم يثبت العمد والإصرار وأبدى الجاني التوبة فلا حد، وتكون العقوبة الحبس تعزيراً مدة لا تزيد على ثلاث سنوات)).
وهذه الاتجاهات الخاطئة التي يدخل التعديل المذكور ضمنها تناقض حرية العقيدة التي أعلنها الدستور اليمني وميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على الصعيد العالمي، حيث تلتزم الدولة اليمنية بكفالة حرية العقيدة.
إن المسلم من الناحية القانونية هو أن من ينطق بالشهادة شفاهة ولا ينكر أساسيات الدين، وبهذا المعنى يدخل دائرة الإسلام كل مسلم لا يزيد جوهره عن ذلك وليس من حق أحد أن يسميه كافراً أو يمنعه من حقوقه التي يحصل عليها في المجتمع الإسلامي بمجرد إقراره بالإسلام ولا اعتبار بلفظ تَلَفَّظَ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه.
وأريد أن أنوه هنا أن التكفير مثله مثل التخوين يعد طريقاً خطيراً ذا نفق مسدود لو بدأ السير في دربه فيصعب التوقف فيه أو النكوص عنه، وإذا صار التكفير سيفاً مسلطاً على الناس أو أداة في حلبة السياسة لاستبعاد الخصوم فإن الدائرة ستدور على الجميع ولن يسلم أحد مهما كان إيمانه راسخاً من خطر أن يتهمه آخرون بالردة والكفر ويخضع لتطبيق حكم النص الخطير أعلاه.
نريد أن يعلم أنصار التخلف وصناع التكفير أننا لن نستسلم لفخاخ أعداء حريتنا الحقيقية ومن يسعون لإعاقتنا عن اللحاق بركب العالم المتحضر، الذين يريدون أن يصورونا نحن أيضاً كآخر معاقل محاكم التفتيش غير الجديرين بحقنا وسط الأسرة الدولية (الحرة)، أو الذين يريدون أن يتاجروا بمعاناتنا ونحن نكافح بصبر وصلابة ضد قيودنا وضد آخر ما يعوق انطلاقنا أو الذين يريدون أن يرغمونا على أن نعود إلى القرون الوسطى، فهذا أريح لهم من كل الوجوه؟!
كشــف جــذور الإرهــاب :
من الواجب لفت الأنظار إلى جذور الإرهاب الذي تأصل بين الجماعات المختلفة التي تنادي بتحكيم الشريعة الإسلامية مع أن أصحابها بعيدون كل البعد عن الإسلام الحقيقي، فالإسلام ليس مجرد شعارات ودعاوى صارخة وإنما هو فكر يتأتى للإنسان فهمه واستيعابه والاستفادة منه بقوة العقل والإدراك والعمل.
إن تلك الجماعات تملأ بياناتها وخطبها وفتاواها بما يشعل حماسة عوام المسلمين قائمة بتكفير شريحة كبيرة من المسلمين وما يستتبع ذلك من إهدار لدماء أولئك الموحدين واستحلال أموالهم ونسائهم، حيث يصاحب ذلك اللعب على وتر الحساسية الطائفية لدى عوام الناس خاصة في خطب الجمعة، كسياسة ملتهبة يخرج منها مصلو الجمعة، وكأن أحدهم يريد أن يفجر نفسه بأمه الحاسرة الرأس أو بأبيه الذي لا يصلي أو في الموالد والاحتفالات النبوية والوطنية كما حدث في المجزرة للجنود البسطاء في ميدان السبعين أو حتى تفجير الذين يرتادون مجالس العزاء كما حدث في (محافظة أبين) وغيرهم من المواطنين الأبرياء كما حصل مراراً وتكراراً وذلك بسبب قوة (الشحنة) التي يتلقاها أولئك الشباب من بعض الخطباء أو من خلال دروس تلفزيونية تكفيرية أو من خلال الإنترنت الذي أصبح بمثابة سلاح نووي في يد تلك الجماعات ومن هنا يرى البعض أنه يلزم تعرية جذور الإرهاب لا سيما مع ما تشهده الساحة اليمنية من تفجيرات إرهابية إجرامية واغتيالات وتكفير وغيرها تحصد بجرائمها القتلى والجرحى، حتى صار كل منا أن يتساءل: أما لهذا الليل من آخر؟!
إن الذين يرفعون شعارات ((أن الحكم إلا لله)) من الذين خرجوا من عباءة ما يسمى (الجماعة الإسلامية - الإخوان المسلمين- أنصار الشريعة)، وأشباههم من (أنصار السنة) إلى آخر تلك التسميات المرمزة، يريدون احتكار العمل في الساحة الإسلامية بترهيب غيرهم من أصحاب الفكر الإسلامي المتنور ونفي صفة المسلمين عن غيرهم ونصب أنفسهم (أوصياء حصريين لحمل الهمّ الإسلامي أممياً)، وهم لا يفعلون ذلك بوازع ديني وإنما لإثبات النفوذ والتمكن من السيطرة على السلطة والاستحواذ على الأموال.
منابر المساجد وأدعياء الفتوى :
المسجد هو قلب المجتمع الإسلامي، يجمع ولا يفرق، ويلم شمل الأمة، وجدير بمسمى الدعاة أن يجدوا في خطب المساجد من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يوحد الصفوف ويطفئ نار الخصومات لا بث النيران فيها وخاصة بإصدار الفتاوى من غير أهلها، إنه يتعين عليهم ألا يستخدموا منابر المساجد في تحقيق أهداف سياسية أو حزبية وأن يبتعدوا عن التيارات السياسية انضماماً لطرف والطعن في الآخر.
والمعلوم للكافة، بالضرورة، هو أنه يحظر استخدام منابر المساجد لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية إذ أنه لا يجوز خلط الدين بالسياسة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أين هي وزارة الأوقاف والإرشاد من هذا كله؟! أليس من أهم أسباب إنشاء هذه الوزارة العاجزة كلية وواجباتها ترشيد هؤلاء الدعاة واختيار من يصلح منهم لهذه المهمة الصعبة، فالإفتاء ليس بالأمر الهين بحيث نتركه في أيدٍ تعبث به كهؤلاء الذين لا لهم سوى إطلاق الفتاوى التكفيرية وإلقاء الخطب الصارخة التي تهدم أكثر مما تبني ولا هدف لأصحابها سوى إثارة الفتن والبلبلة داخل المجتمع وإطلاق ونشر الفتاوى التكفيرية التي تبيح سفك الدماء.
شهـــادة عالـــم :
أشير هنا إلى الدكتور/ أحمد الموصللي، في (موسوعة الحركات الإسلامية في ترجمة سيد قطب 1966م)، المنظر الأساسي لفكر الإخوان إلى أنه من التشدد في ليبراليته التي ظهرت في كتابه (قصص الحب ودعوته للتعري) انتقل (قطب) إلى تأسيس الراديكالية المستندة إلى الجاهلية والحاكمية. وخلاصة المسألتين تقوم على خطوتين أولاهما اعتبار المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر مجتمعات جاهلية كافرة مرتدة، إذ يصرح (قطب) بعدما ذكر أن البشرية ارتدت إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله بما نصه:
((البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله، بلا مدلول ولا واقع وهؤلاء أشد إثماً وأثقل عذاباً يوم القيامة لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى ومن بعد أن كانوا في دين الله)).
لينتقل بعد ذلك إلى تكفير الحكام واستحلال الانقلاب والثورة عليهم كما يقول قطب في الكتاب نفسه (ص 1450) ما نصه عن حزب الإخوان أنه:
((لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم بعدما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين)).
أما طريقهم إلى ذلك فهو ما يقوله في (ص 1451) ما نصه بالحرف:
((لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء - الحزب الإسلامي - يعني حزب الإخوان - عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير أنظمة الحكم في بلادهم التي يسكنونها أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل (World Revolution) المحيط بجميع أنحاء الأرض، بل الحق أنها مضطرة أي (جماعة حزب الإخوان) بسجيتها وجلبتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينها ولا تغفل عنها طرفة عين)).
انتهى نصه الذي أظنه أوضح من أن يفسر، وهو ما حدث وما زال يحدث على أرض الواقع.
إن إنكار تلك العمليات الانتحارية الإجرامية وتوجيه اتهامات التكفير والارتداد للخصوم كنوع من التصفية السياسية، هو من الواجب الديني الشرعي الذي لا يجوز للعلماء ونخبة المثقفين ولا لغيرهم السكوت عنه، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور، وما أشد خطر أن يعم الإرهاب والتكفير والقتل والإجرام ما بين فصائل اليمنيين بكافة أطيافهم المختلفة، وكل ذلك باسم الإسلام، والإسلام من ذلك براء.
الخاتمــــة :
إنه لا يوجد أمام اليمن الآن سوى التلاحم مع نخبة المثقفين التنويريين والحرص عليهم، لقد سبقنا الآخرون في كل شيء، وليس في حوزتنا سوى التراث الفقهي اليمني المعتزلي العظيم وعقول النخبة المثقفة المدنية اليمنية التنويرية، فهل يُعقل في هذا السياق أن نكفرهم ونطاردهم وتسعى أجهزة الحكم للفتك بهم بناءً على فتاوى الجماعات التكفيرية ويتم محاكمتهم وإصدار الأحكام عليهم، فيحصل الآخرون على فرصة ذهبية لكي يقولوا: (ظهور محاكم التفتيش في اليمن). إن القضاء يا هؤلاء ليس مجالاً لمحاكمة الأفكار .. فهل تعقلون؟!
إن المساس بحرية التعبير ومحاولة تعكير الجو الديمقراطي هو إساءة للنظام والحكم قبل أن يكون إساءة للشعب اليمني، وأية محاولة لتلطيخ وجه اليمن الحديث المدني الحر المأمول سندفع ثمنها نحن جميعاً، فالحرية الحقيقية ليست في أن نعاقب كاتباً أو ناشراً أو أكاديمياً، ونحاكمه على اتهامات زائفة وظالمة حتى مع افتراض ارتكابه خطأ ما، في حين نغتال كل يوم وفي كل المجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والاجتهاد.
محام ومستشار قانوني
التكفير والإرهاب..الحزب الإخواني والرؤية المرفوضة
أخبار متعلقة